اسم الکتاب : في ظلال القرآن المؤلف : سيد قطب الجزء : 1 صفحة : 318
الوجه الآخر المقابل للصدقة التي عرض دستورها في الدرس الماضي.. الوجه الكالح الطالح هو الربا! الصدقة عطاء وسماحة، وطهارة وزكاة، وتعاون وتكافل.. والربا شح، وقذارة ودنس، وأثرة وفردية..
والصدقة نزول عن المال بلا عوض ولا رد. والربا استرداد للدين ومعه زيادة حرام مقتطعة من جهد المدين أو من لحمه. من جهده إن كان قد عمل بالمال الذي استدانه فربح نتيجة لعمله هو وكده. ومن لحمه إن كان لم يربح أو خسر، أو كان قد أخذ المال للنفقة منه على نفسه وأهله ولم يستربحه شيئاً..
ومن ثم فهو- الربا- الوجه الآخر المقابل للصدقة.. الوجه الكالح الطالح! لهذا عرضه السياق مباشرة بعد عرض الوجه الطيب السمح الطاهر الجميل الودود! عرضه عرضاً منفراً، يكشف عما في عملية الربا من قبح وشناعة. ومن جفاف في القلب وشر في المجتمع، وفساد في الأرض وهلاك للعباد.
ولم يبلغ من تفظيع أمر أراد الإسلام إبطاله من أمور الجاهلية ما بلغ من تفظيع الربا. ولا بلغ من التهديد في اللفظ والمعنى ما بلغ التهديد في أمر الربا- في هذه الآيات وفي غيرها في مواضع أخرى- ولله الحكمة البالغة. فلقد كانت للربا في الجاهلية مفاسده وشروره. ولكن الجوانب الشائهة القبيحة من وجهه الكالح ما كانت كلها بادية في مجتمع الجاهلية كما بدت اليوم وتكشفت في عالمنا الحاضر، ولا كانت البثور والدمامل في ذلك الوجه الدميم مكشوفة كلها كما كشفت اليوم في مجتمعنا الحديث. فهذه الحملة المفزعة البادية في هذه الآيات على ذلك النظام المقيت، تتكشف اليوم حكمتها على ضوء الواقع الفاجع في حياة البشرية. أشد مما كانت متكشفة في الجاهلية الأولى. ويدرك- من يريد أن يتدبر حكمة الله وعظمة هذا الدين وكمال هذا المنهج ودقة هذا النظام- يدرك اليوم من هذا كله ما لم يكن يدركه الذين واجهوا هذه النصوص أول مرة.
وأمامه اليوم من واقع العالم ما يصدّق كل كلمة تصديقاً حياً مباشراً واقعاً. والبشرية الضالة التي تأكل الربا وتوكله تنصب عليها البلايا الماحقة الساحقة من جراء هذا النظام الربوي، في أخلاقها ودينها وصحتها واقتصادها.
وتتلقى- حقاً- حرباً من الله تصب عليها النقمة والعذاب.. أفراداً وجماعات، وأمماً وشعوباً، وهي لا تعتبر ولا تفيق! وحينما كان السياق يعرض في الدرس السابق دستور الصدقة كان يعرض قاعدة من قواعد النظام الاجتماعي والاقتصادي الذي يريد الله للمجتمع المسلم أن يقوم عليه، ويحب للبشرية أن تستمتع بما فيه من رحمة..
في مقابل ذلك النظام الآخر الذي يقوم على الأساس الربوي الشرير القاسي اللئيم.
أنهما نظامان متقابلان: النظام الإسلامي. والنظام الربوي! وهما لا يلتقيان في تصور، ولا يتفقان في أساس ولا يتوافقان في نتيجة.. إن كلاً منهما يقوم على تصور للحياة والأهداف والغايات يناقض الآخر تمام المناقضة. وينتهي إلى ثمرة في حياة الناس تختلف عن الأخرى كل الاختلاف.. ومن ثم كانت هذه الحملة المفزعة، وكان هذا التهديد الرعيب! إن الإسلام يقيم نظامه الاقتصادي- ونظام الحياة كلها- على تصور معين يمثل الحق الواقع في هذا الوجود.
يقيمه على أساس أن الله- سبحانه- هو خالق هذا الكون. فهو خالق هذه الأرض، وهو خالق هذا الإنسان.. هو الذي وهب كل موجود وجوده..
وإن الله- سبحانه- وهو مالك كل موجود بما أنه هو موجده قد استخلف الجنس الإنساني في هذه الأرض ومكنه مما ادخر له فيها من أرزاق وأقوات ومن قوى وطاقات، على عهد منه وشرط. ولم يترك له هذا الملك
اسم الکتاب : في ظلال القرآن المؤلف : سيد قطب الجزء : 1 صفحة : 318