اسم الکتاب : في ظلال القرآن المؤلف : سيد قطب الجزء : 1 صفحة : 307
الكاذب، أو رغبة في إذلال الآخذ، أو رغبة في لفت أنظار الناس. فالتوجه إذن للناس لا لله بالعطاء..
وكلها مشاعر لا تجيش في قلب طيب، ولا تخطر كذلك في قلب مؤمن.. فالمن- من ثم- يحيل الصدقة أذى للواهب وللآخذ سواء. أذى للواهب بما يثير في نفسه من كبر وخيلاء ورغبة في رؤية أخيه ذليلاً له كسيراً لديه وبما يملأ قلبه بالنفاق والرياء والبعد من الله.. وأذى للآخذ بما يثير في نفسه من انكسار وانهزام، ومن رد فعل بالحقد والانتقام.. وما أراد الإسلام بالإنفاق مجرد سد الخلة، وملء البطن، وتلافي الحاجة..
كلا! إنما أراده تهذيباً وتزكية وتطهيراً لنفس المعطي واستجاشة لمشاعره الإنسانية وارتباطه بأخيه الفقير في الله وفي الإنسانية وتذكيراً له بنعمة الله عليه وعهده معه في هذه النعمة أن يأكل منها في غير سرف ولا مخيلة، وأن ينفق منها «فِي سَبِيلِ اللَّهِ» في غير منع ولا من. كما أراده ترضية وتندية لنفس الآخذ، وتوثيقاً لصلته بأخيه في الله وفي الإنسانية وسداً لخلة الجماعة كلها لتقوم على أساس من التكافل والتعاون يذكرها بوحدة قوامها ووحدة حياتها ووحدة اتجاهها ووحدة تكاليفها. والمن يذهب بهذا كله، ويحيل الإنفاق سماً وناراً. فهو أذى وإن لم يصاحبه أذى آخر باليد أو باللسان. هو أذى في ذاته يمحق الإنفاق، ويمزق المجتمع، ويثير السخائم والأحقاد.
وبعض الباحثين النفسيين في هذه الأيام يقررون أن رد الفعل الطبيعي في النفس البشرية للإحسان هو العداء في يوم من الأيام! وهم يعللون هذا بأن الآخذ يحس بالنقص والضعف أمام المعطي ويظل هذا الشعور يحز في نفسه فيحاول الاستعلاء عليه بالتجهم لصاحب الفضل عليه وإضمار العداوة له لأنه يشعر دائماً بضعفه ونقصه تجاهه ولأن المعطي يريد منه دائماً أن يشعر بأنه صاحب الفضل عليه! وهو الشعور الذي يزيد من ألم صاحبه حتى يتحول إلى عداء! وقد يكون هذا كله صحيحاً في المجتمعات الجاهلية- وهي المجتمعات التي لا تسودها روح الإسلام ولا يحكمها الإسلام- أما هذا الدين فقد عالج المشكلة على نحو آخر. عالجها بأن يقرر في النفوس أن المال مال الله وأن الرزق الذي في أيدي الواجدين هو رزق الله.. وهي الحقيقة التي لا يجادل فيها إلا جاهل بأسباب الزرق البعيدة والقريبة، وكلها منحة من الله لا يقدر الإنسان منها على شيء. وحبة القمح الواحدة قد اشتركت في إيجادها قوى وطاقات كونية من الشمس إلى الأرض إلى الماء إلى الهواء. وكلها ليست في مقدور الإنسان..
وقس على حبة القمح نقطة الماء وخيط الكساء وسائر الأشياء.. فإذا أعطى الواجد من ماله شيئا فإنما من مال الله أعطى وإذا أسلف حسنة فإنما هي قرض لله يضاعفه له أضعافاً كثيرة. وليس المحروم الآخذ إلا أداة وسبباً لينال المعطي الواهب أضعاف ما أعطى من مال الله! ثم شرع هذه الآداب التي نحن الآن بصددها، توكيداً لهذا المعنى في النفوس، حتى لا يستعلي معط ولا يتخاذل آخذ. فكلاهما آكل من رزق الله. وللمعطين أجرهم من الله إذا هم أعطوا من مال الله في سبيل الله متأدبين بالأدب الذي رسمه لهم، متقيدين بالعهد الذي عاهدهم عليه:
«وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» ..
من فقر ولا من حقد ولا من غبن..
«وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» ..
اسم الکتاب : في ظلال القرآن المؤلف : سيد قطب الجزء : 1 صفحة : 307