اسم الکتاب : في ظلال القرآن المؤلف : سيد قطب الجزء : 1 صفحة : 305
الدافع المحرك الموجه في الميدان! ونحن أحوج ما نكون إلى الإحساس بالقرآن على هذا النحو وإلى رؤيته كائناً حياً متحركاً دافعاً. فقد بعد العهد بيننا وبين الحركة الإسلامية والحياة الإسلامية والواقع الإسلامي وانفصل القرآن في حسنا عن واقعه التاريخي الحي ولم يعد يمثل في حسنا تلك الحياة التي وقعت يوماً ما على الأرض، في تاريخ الجماعة المسلمة ولم نعد نذكر أنه كان في أثناء تلك المعركة المستمرة هو «الأمر اليومي» للمسلم المجند وهو التوجيه الذي يتلقاه للعمل والتنفيذ.. مات القرآن في حسنا.. أو نام.. ولم تعد له تلك الصورة الحقيقية التي كانت له عند نزوله في حس المسلمين. ودرجنا على أن نتلقاه إما ترتيلاً منغماً نطرب له، أو نتأثر التأثر الوجداني الغامض السارب! وإما أن نقرأه أوراداً أقصى ما تصنع في حس المؤمنين الصادقين منا أن تنشئ في القلب حالة من الوجد أو الراحة أو الطمأنينة المبهمة المجملة.. والقرآن ينشىء هذا كله. ولكن المطلوب- إلى جانب هذا كله- أن ينشىء في المسلم وعياً وحياة. نعم المطلوب أن ينشىء حالة وعي يتحرك معها القرآن حركة الحياة التي جاء لينشئها. المطلوب أن يراه المسلم في ميدان المعركة التي خاضها، والتي لا يزال مستعداً لأن يخوضها في حياة الأمة المسلمة. المطلوب أن يتوجه إليه المسلم ليسمع منه ماذا ينبغي أن يعمل- كما كان المسلم الأول يفعل- وليدرك حقيقة التوجيهات القرآنية فيما يحيط به اليوم من أحداث ومشكلات وملابسات شتى في الحياة وليرى تاريخ الجماعة المسلمة ممثلاً في هذا القرآن، متحركاً في كلماته وتوجيهاته فيحس حينئذ أن هذا التاريخ ليس غريباً عنه. فهو تاريخه. وواقعه اليوم هو امتداد لهذا التاريخ. وما يصادفه اليوم من أحداث هو ثمرة لما صادف أسلافه، مما كان القرآن يوجههم إلى التصرف فيه تصرفاً معيناً. ومن ثم يحس أن هذا القرآن قرآنه هو كذلك. قرآنه الذي يستثيره فيما يعرض له من أحداث وملابسات وأنه هو دستور تصوره وتفكيره وحياته وتحركاته الآن وبعد الآن بلا انقطاع.
ويفيدنا ثانياً في رؤية حقيقة الطبيعة البشرية الثابتة المطردة تجاه دعوة الإيمان وتكاليفها. رؤيتها رؤية واقعية من خلال الواقع الذي تشير إليه الآيات القرآنية في حياة الجماعة المسلمة الأولى.. فهذه الجماعة التي كان يتنزل عليها القرآن، ويتعهدها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان فيها بعض مواضع الضعف والنقص التي تقتضي الرعاية والتوجيه والإيحاء المستمر ولم يمنعها هذا أن تكون خير الأجيال جميعاً.. وإدراك هذه الحقيقة ينفعنا. ينفعنا لأنه يرينا حقيقة الجماعات البشرية بلا غلو ولا مبالغة ولا هالات ولا تصورات مجنحة! وينفعنا لأنه يدفع عن نفوسنا اليأس من أنفسنا حين نرى أننا لم نبلغ تلك الآفاق التي يرسمها الإسلام ويدعو الناس إلى بلوغها. فيكفي أن نكون في الطريق، وأن تكون محاولتنا مستمرة ومخلصة للوصول.. وينفعنا في إدراك حقيقة أخرى: وهي أن الدعوة إلى الكمال يجب أن تلاحق الناس، ولا تفتر ولا تني ولا تيئس إذا ظهرت بعض النقائص والعيوب. فالنفوس هكذا. وهي ترتفع رويداً رويداً بمتابعة الهتاف لها بالواجب، ودعوتها إلى الكمال المنشود، وتذكيرها الدائم بالخير، وتجميل الخير لها وتقبيح الشر، وتنفيرها من النقص والضعف، والأخذ بيدها كلما كبتْ في الطريق، وكلما طال بها الطريق! ويفيدنا ثالثاً في الاستقرار إلى هذه الحقيقة البسيطة التي كثيراً ما نغفل عنها وننساها: وهي أن الناس هم الناس والدعوة هي الدعوة والمعركة هي المعركة.. إنها أولاً وقبل كل شيء معركة مع الضعف والنقص والشح والحرص في داخل النفس. ثم هي معركة مع الشر والباطل والضلال والطغيان في واقع الحياة. والمعركة بطرفيها لا بد من خوضها. ولا بد للقائمين على الجماعة المسلمة في الأرض من مواجهتها بطرفيها كما واجهها
اسم الکتاب : في ظلال القرآن المؤلف : سيد قطب الجزء : 1 صفحة : 305