اسم الکتاب : في ظلال القرآن المؤلف : سيد قطب الجزء : 1 صفحة : 297
الجزء الثالث الأمر الذي لا بد منه للإقبال على الحياة بعد ذلك إقبالاً بصيراً، منبثقاً من الرؤية الصحيحة الواضحة، وقائماً على اليقين الثابت المطمئن. فنظام الحياة ومنهج السلوك وقواعد الأخلاق والآداب.. ليست بمعزل عن التصور الاعتقادي بل هي قائمة عليه، مستمدة منه. وما يمكن أن تثبت وتستقيم ويكون لها ميزان مستقر إلا أن ترتبط بالعقيدة، وبالتصور الشامل لحقيقة هذا الوجود وارتباطاته بخالقه الذي وهبه الوجود.. ومن ثم هذا التركيز القوي على إيضاح قواعد التصور الاعتقادي الذي استغرق القرآن المكي كله وما يزال يطالع الناس في القرآن المدني بمناسبة كل تشريع وكل توجيه في شؤون الحياة جميعاً.
258- والآية الأولى تحكي حواراً بين إبراهيم- عليه السلام- وملك في أيامه يجادله في الله. لا يذكر السياق اسمه، لأن ذكر اسمه لا يزيد من العبرة التي تمثلها الآية شيئاً. وهذا الحوار يعرض على النبي- صلى الله عليه وسلم- وعلى الجماعة المسلمة في أسلوب التعجيب من هذا المجادل، الذي حاج إبراهيم في ربه وكأنما مشهد الحوار يعاد عرضه من ثنايا التعبير القرآني العجيب:
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ؟ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ. قالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ! قالَ إِبْراهِيمُ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ. فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» ..
إن هذا الملك الذي حاج إبراهيم في ربه لم يكن منكراً لوجود الله أصلاً إنما كان منكراً لوحدانيته في الألوهية والربوبية ولتصريفه للكون وتدبيره لما يجري فيه وحده، كما كان بعض المنحرفين في الجاهلية يعترفون بوجود الله ولكنهم يجعلون له انداداً ينسبون إليها فاعلية وعملاً في حياتهم! وكذلك كان منكراً أن الحاكمية لله وحده، فلا حكم إلا حكمه في شؤون الأرض وشريعة المجتمع.
إن هذا الملك المنكر المتعنت إنما ينكر ويتعنت للسبب الذي كان ينبغي من أجله أن يؤمن ويشكر. هذا السبب هو «أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ» .. وجعل في يده السلطان! لقد كان ينبغي أن يشكر ويعترف، لولا أن الملك يُطغي ويبطر من لا يقدرون نعمة الله، ولا يدركون مصدر الإنعام. ومن ثم يضعون الكفر في موضع الشكر ويضلون بالسبب الذي كان ينبغي أن يكونوا به مهتدين! فهم حاكمون لأن الله حكمهم، وهو لم يخولهم استعباد الناس بقسرهم على شرائع من عندهم. فهم كالناس عبيد لله، يتلقون مثلهم الشريعة من الله، ولا يستقلون دونه بحكم ولا تشريع فهم خلفاء لا أصلاء! ومن ثم يعجب الله من أمره وهو يعرضه على نبيه:
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ؟» ..
ألم تر؟ إنه تعبير التشنيع والتفظيع وإن الإنكار والاستنكار لينطلقان من بنائه اللفظي وبنائه المعنوي سواء.
فالفعلة منكرة حقاً: أن يأتي الحجاج والجدال بسبب النعمة والعطاء! وأن يدعي عبد لنفسه ما هو من اختصاص الرب، وأن يستقل حاكم بحكم الناس بهواه دون أن يستمد قانونه من الله.
«قالَ إِبْراهِيمُ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ» ..
والإحياء والإماتة هما الظاهرتان المكرورتان في كل لحظة، المعروضتان لحس الإنسان وعقله. وهما- في الوقت نفسه- السر الذي يحير، والذي يلجيء الإدراك البشري الجاء إلى مصدر آخر غير بشري. وإلى أمر آخر غير أمر المخاليق. ولا بد من الالتجاء إلى الألوهية القادرة على الإنشاء والإفناء لحل هذا اللغز الذي يعجز
اسم الکتاب : في ظلال القرآن المؤلف : سيد قطب الجزء : 1 صفحة : 297