responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : في ظلال القرآن المؤلف : سيد قطب    الجزء : 1  صفحة : 24
عن ضرورة ذلك الجهد المتطاول، كما تكشف عن مدى عظمة الدور الذي قامت به هذه العقيدة- وتقوم في تحرير الضمير البشري وإعتاقه وإطلاقه من عناء التخبط بين شتى الأرباب وشتى الأوهام والأساطير! وإن جمال هذه العقيدة وكمالها وتناسقها وبساطة الحقيقة الكبيرة التي تمثلها.. كل هذا لا ينجلى للقلب والعقل كما يتجلى من مراجعة ركام الجاهلية من العقائد والتصورات، والأساطير والفلسفات! وبخاصة موضوع الحقيقة الإلهية وعلاقتها بالعالم.. عندئذ تبدو العقيدة الإسلامية رحمة. رحمة حقيقية للقلب والعقل، رحمة بما فيها من جمال وبساطة، ووضوح وتناسق، وقرب وأنس، وتجاوب مع الفطرة مباشر عميق.
«الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .. هذه الصفة التي تستغرق كل معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها تتكرر هنا في صلب السورة، في آية مستقلة، لتؤكد السمة البارزة في تلك الربوبية الشاملة ولتثبت قوائم الصلة الدائمة بين الرب ومربوبيه. وبين الخالق ومخلوقاته.. إنها صلة الرحمة والرعاية التي تستجيش الحمد والثناء. إنها الصلة التي تقوم على الطمأنينة وتنبض بالمودة، فالحمد هو الاستجابة الفطرية للرحمة الندية.
إن الرب الإله في الإسلام لا يطارد عباده مطاردة الخصوم والأعداء كآلهة الأولمب في نزواتها وثوراتها كما تصورها أساطير الإغريق. ولا يدبر لهم المكائد الانتقامية كما تزعم الأساطير المزورة في «العهد القديم» كالذي جاء في أسطورة برج بابل في الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين [1] .
«مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» .. وهذه تمثل الكلية الضخمة العميقة التأثير في الحياة البشرية كلها، كلية الاعتقاد بالآخرة.. والملك أقصى درجات الاستيلاء والسيطرة. ويوم الدين هو يوما الجزاء في الآخرة.. وكثيراً ما اعتقد الناس بألوهية الله، وخلقه للكون أول مرة ولكنهم مع هذا لم يعتقدوا بيوم الجزاء.. والقرآن يقول عن بعض هؤلاء: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ: اللَّهُ» .. ثم يحكي عنهم في موضع آخر: «بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون: هذا شيء عجيب. أإذا متنا وكنا تراباً؟
ذلك رجع بعيد» ! والاعتقاد بيوم الدين كلية من كليات العقيدة الإسلامية ذات قيمة في تعليق أنظار البشر وقلوبهم بعالم آخر بعد عالم الأرض فلا تستبد بهم ضرورات الأرض. وعندئذ يملكون الاستعلاء على هذه الضرورات. ولا يستبد بهم القلق على تحقيق جزاء سعيهم في عمرهم القصير المحدود، وفي مجال الأرض المحصور. وعندئذ يملكون العمل لوجه الله وانتظار الجزاء حيث يقدره الله، في الأرض أو في الدار الآخرة سواء، في طمأنينة لله، وفي ثقة بالخير، وفي إصرار على الحق، وفي سعة وسماحة ويقين.. ومن ثم فإن هذه الكلية تعد مفرق الطريق بين العبودية للنزوات والرغائب، والطلاقة الإنسانية اللائقة ببني الإنسان. بين الخضوع لتصورات الأرض وقيمها وموازينها والتعلق بالقيم الربانية والاستعلاء على منطق الجاهلية. مفرق الطريق بين الإنسانية في حقيقتها العليا التي أرادها الله الرب لعباده، والصور المشوهة المنحرفة التي لم يقدر لها الكمال.

[1] وكانت الأرض كلها لغة واحدة وكلاما واحدا. وكان أنهم لما رحلوا من المشرق وجدوا بقعة في أرض شنعار فأقاموا هناك. وقال بعضهم لبعض تعالوا نصنع لبنا وننضجه طبخا فكان لهم اللبن بدل الحجارة والحمر كان لهم بدل الطين. وقالوا تعالوا نبن لنا مدينة وبرجا رأسه إلى السماء ونقم لنا اسما كي لا نتبدد على وجه الأرض كلها. فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما. وقال الرب هو ذا هم شعب واحد ولجميعهم لغة واحدة وهذا ما أخذوا يفعلونه. والآن لا يكفون عما هموا به حتى يصنعوه. هلم نهبط ونبلبل هناك لغتهم حتى لا يفهم بعضهم لغة بعض. فبددهم الرب من هناك على وجه الأرض كلها وكفوا عن بناء المدينة. ولذلك سميت بابل لأن الرب هناك بلبل لغة الأرض كلها. ومن هناك شتتهم الرب على كل وجهها.
اسم الکتاب : في ظلال القرآن المؤلف : سيد قطب    الجزء : 1  صفحة : 24
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست