responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : في ظلال القرآن المؤلف : سيد قطب    الجزء : 1  صفحة : 213
الاستمرار في العناد والجحود.. وهذه هي مزالق الطريق التي يحذر الله الجماعة المسلمة منها، كي تنجو من عاقبة بني إسرائيل المنكودة.
«سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ: كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ» ..
والسؤال هنا قد لا يكون مقصوراً على حقيقته. إنما هو أسلوب من أساليب البيان، للتذكير بكثرة الآيات التي آتاها الله بني إسرائيل، والخوارق التي أجراها لهم.. إما بسؤال منهم وتعنت، وإما ابتداء من عند الله لحكمة حاضرة.. ثم ما كان منهم- على الرغم من كثرة الخوارق- من تردد وتلكؤ وتعنت ونكوص عن السلم الذي يظلل كنف الإيمان.
ثم يجيء التعقيب عاماً:
«وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» ..
ونعمة الله المشار إليها هنا هي نعمة السلم. أو نعمة الإيمان. فهما مترادفان. والتحذير من تبديلها يجد مصداقه أولاً في حال بني إسرائيل، وحرمانهم من السلم والطمأنينة والاستقرار، منذ أن بدلوا نعمة الله، وأبوا الطاعة الراضية، والاستسلام لتوجيه الله. وكانوا دائماً في موقف الشاك المتردد، الذي يظل يطلب الدليل من الخارقة في كل خطوة وكل حركة ثم لا يؤمن بالمعجزة، ولا يطمئن لنور الله وهداه، والتهديد بشدة عقاب الله يجد مصداقه أولاً في حال بني إسرائيل، ويجد مصداقه أخيراً فيما ينتظر المبدلين للنعمة المتبطرين عليها في كل زمان.
وما بدلت البشرية هذه النعمة إلا أصابها العقاب الشديد في حياتها على الأرض قبل عقاب الآخرة. وها هي ذي البشرية المنكودة الطالع في أنحاء الأرض كلها تعاني العقاب الشديد وتجد الشقوة النكدة وتعاني القلق والحيرة ويأكل بعضها بعضاً ويأكل الفرد منها نفسه وأعصابه، ويطاردها وتطارده بالأشباح المطلقة، وبالخواء القاتل الذي يحاول المتحضرون أن يملأوه تارة بالمسكرات والمخدرات، وتارة بالحركات الحائرة التي يخيل إليك معها أنهم هاربون تطاردهم الأشباح! ونظرة إلى صورهم في الأوضاع العجيبة المتكلفة التي يظهرون بها: من مائلة برأسها، إلى كاشفة عن صدرها، إلى رافعة ذيلها، إلى مبتدعة قبعة غريبة على هيئة حيوان! إلى واضع رباط عنق رسم عليه تيتل أو فيل! إلى لابس قميص تربعت عليه صورة أسد أو دب! ونظرة إلى رقصاتهم المجنونة، وأغانيهم المحمومة، وأوضاعهم المتكلفة وأزيائهم الصارخة في بعض الحفلات والمناسبات ومحاولة لفت النظر بالشذوذ الصارخ، أو ترضية المزاج بالتميز الفاضح..
ونظرة إلى التنقل السريع المحموم بين الأهواء والأزواج والصداقات والأزياء بين فصل وفصل، لا بل بين الصباح والمساء! كل أولئك يكشف عن الحيرة القاتلة التي لا طمأنينة فيها ولا سلام. ويكشف عن حالة الملل الجاثم التي يفرون منها، وعن حالة «الهروب» من أنفسهم الخاوية وأرواحهم الموحشة، كالذي تطارده الجنة والأشباح.
وإن هو إلا عقاب الله، لمن يحيد عن منهجه، ولا يستمع لدعوته: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً» ..
وإن الإيمان الواثق لنعمة الله على عباده، لا يبدلها مبدل حتى يحيق به ذلك العقاب.. والعياذ بالله..

اسم الکتاب : في ظلال القرآن المؤلف : سيد قطب    الجزء : 1  صفحة : 213
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست