responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : فتح القدير المؤلف : الشوكاني    الجزء : 1  صفحة : 86
سُبْحَانَهُ، حَتَّى أَفْرَدُوا ذَلِكَ بِالتَّصْنِيفِ، وَجَعَلُوهُ الْمَقْصِدَ الْأَهَمَّ مِنَ التَّأْلِيفِ، كَمَا فَعَلَهُ الْبِقَاعِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَمَنْ تَقَدَّمَهُ حَسْبَمَا ذَكَرَ فِي خُطْبَتِهِ، وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَعْجَبِ مَا يَسْمَعُهُ مَنْ يَعْرِفُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَا زَالَ يَنْزِلُ مُفَرَّقًا عَلَى حَسَبِ الْحَوَادِثِ الْمُقْتَضِيَةِ لِنُزُولِهِ مُنْذُ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنْ قَبَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ، وَكُلُّ عَاقِلٍ فَضْلًا عَنْ عَالِمٍ لَا يَشُكُّ أَنَّ هَذِهِ الْحَوَادِثَ الْمُقْتَضِيَةَ نُزُولَ الْقُرْآنِ مُتَخَالِفَةٌ بِاعْتِبَارِ نَفْسِهَا، بَلْ قَدْ تَكُونُ مُتَنَاقِضَةً كَتَحْرِيمِ أَمْرٍ كَانَ حَلَالًا، وَتَحْلِيلِ أَمْرٍ كَانَ حراما، وإثبات أمر لشخص يُنَاقِضُ مَا كَانَ قَدْ ثَبَتَ لَهُمْ قَبْلَهُ، وَتَارَةً يَكُونُ الْكَلَامُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَارَةً مَعَ الْكَافِرِينَ، وَتَارَةً مَعَ مَنْ مَضَى، وَتَارَةً مَعَ مَنْ حَضَرَ، وَحِينًا فِي عِبَادَةٍ، وَحِينًا فِي مُعَامَلَةٍ، وَوَقْتًا فِي تَرْغِيبٍ، وَوَقْتًا فِي تَرْهِيبٍ، وَآوِنَةً فِي بِشَارَةٍ، وَآوِنَةً فِي نِذَارَةٍ، وَطَوْرًا فِي أَمْرِ دُنْيَا، وَطَوْرًا فِي أَمْرِ آخِرَةٍ، وَمَرَّةً فِي تَكَالِيفَ آتِيَةٍ، وَمَرَّةً فِي أَقَاصِيصَ مَاضِيَةٍ وَإِذَا كَانَتْ أَسْبَابُ النُّزُولِ مُخْتَلِفَةً هَذَا الِاخْتِلَافَ، وَمُتَبَايِنَةً هَذَا التَّبَايُنَ الَّذِي لَا يَتَيَسَّرُ مَعَهُ الِائْتِلَافُ، فَالْقُرْآنُ النَّازِلُ فِيهَا هُوَ بِاعْتِبَارِهِ نَفْسِهِ مُخْتَلِفٌ كَاخْتِلَافِهَا، فَكَيْفَ يَطْلُبُ الْعَاقِلُ الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَ الضَّبِّ وَالنُّونِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ وَالْمَلَّاحِ وَالْحَادِي، وَهَلْ هَذَا إِلَّا مِنْ فَتْحِ أَبْوَابِ الشَّكِّ وَتَوْسِيعِ دَائِرَةِ الرَّيْبِ عَلَى مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، أَوْ كَانَ مَرَضُهُ مُجَرَّدَ الْجَهْلِ وَالْقُصُورِ، فَإِنَّهُ إِذَا وَجَدَ أَهْلَ الْعِلْمِ يَتَكَلَّمُونَ فِي التَّنَاسُبِ بَيْنَ جَمِيعِ آيِ الْقُرْآنِ وَيُفْرِدُونَ ذَلِكَ بِالتَّصْنِيفِ، تَقَرَّرَ عِنْدَهُ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ لَا بد منه، وأن لَا يَكُونُ الْقُرْآنُ بَلِيغًا مُعْجِزًا إِلَّا إِذَا ظَهَرَ الْوَجْهُ الْمُقْتَضِي لِلْمُنَاسَبَةِ، وَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ الْمُوجِبُ لِلِارْتِبَاطِ، فَإِنْ وُجِدَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْآيَاتِ فَرَجَعَ إِلَى مَا قَالَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي ذَلِكَ، فَوَجَدَهُ تَكَلُّفًا مَحْضًا، وَتَعَسُّفًا بَيِّنًا انْقَدَحَ فِي قَلْبِهِ مَا كَانَ عَنْهُ فِي عَافِيَةٍ وَسَلَامَةٍ، هَذَا عَلَى فَرْضِ أَنَّ نُزُولَ الْقُرْآنِ كَانَ مُتَرَتِّبًا عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ الْكَائِنِ فِي الْمُصْحَفِ فَكَيْفَ وَكُلُّ مَنْ لَهُ أَدْنَى عِلْمٍ بِالْكِتَابِ، وَأَيْسَرُ حَظٍّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ يَعْلَمُ عِلْمًا يَقَينًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَمَنْ شَكَّ فِي هَذَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّا يَشُكُّ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ رَجَعَ إِلَى كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ الْعَارِفِينَ بِأَسْبَابِ النُّزُولِ، الْمُطَّلِعِينَ عَلَى حَوَادِثِ النُّبُوَّةِ، فَإِنَّهُ يَنْثَلِجُ صَدْرُهُ، وَيَزُولُ عَنْهُ الرَّيْبُ، بِالنَّظَرِ فِي سُورَةٍ مِنَ السُّوَرِ الْمُتَوَسِّطَةِ، فَضْلًا عَنِ الْمُطَوَّلَةِ لِأَنَّهُ لَا مَحَالَةَ يَجِدُهَا مُشْتَمِلَةً عَلَى آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي حَوَادِثَ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَوْقَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ لَا مُطَابَقَةَ بَيْنَ أَسْبَابِهَا وَمَا نَزَلَ فِيهَا فِي التَّرْتِيبِ، بَلْ يَكْفِي الْمُقَصِّرَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ وبعده يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ وَيَنْظُرُ أَيْنَ مَوْضِعُ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالسُّوَرِ فِي تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ؟ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا، فأيّ معنى لطلب المناسب بَيْنَ آيَاتٍ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ في ترتيب المصحف ما أنزله اللَّهُ مُتَأَخِّرًا، وَتَأَخُّرَ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ مُتَقَدِّمًا، فَإِنَّ هَذَا عَمَلٌ لَا يَرْجِعُ إِلَى تَرْتِيبِ نُزُولِ الْقُرْآنِ، بَلْ إِلَى مَا وَقَعَ مِنَ التَّرْتِيبِ عِنْدَ جَمْعِهِ مِمَّنْ تَصَدَّى لِذَلِكَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمَا أَقَلَّ نَفْعَ مِثْلِ هَذَا وَأَنْزَرَ ثَمَرَتَهُ، وَأَحْقَرَ فَائِدَتَهُ، بَلْ هُوَ عِنْدَ مَنْ يَفْهَمُ مَا يَقُولُ وَمَا يُقَالُ لَهُ مِنْ تَضْيِيعِ الْأَوْقَاتِ، وَإِنْفَاقِ السَّاعَاتِ فِي أَمْرٍ لَا يَعُودُ بِنَفْعٍ عَلَى فَاعِلِهِ وَلَا عَلَى مَنْ يَقِفُ عَلَيْهِ مِنَ النَّاسِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ تَصَدَّى رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لِلْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ مَا قَالَهُ رَجُلٌ مِنَ الْبُلَغَاءِ مِنْ خُطَبِهِ وَرَسَائِلِهِ وَإِنْشَاءَاتِهِ، أَوْ إِلَى مَا قَالَهُ شَاعِرٌ مِنَ الشُّعَرَاءِ مِنَ الْقَصَائِدِ الَّتِي تَكُونُ تَارَةً مَدْحًا وَأُخْرَى هِجَاءً، وَحِينًا نَسِيبًا وَحِينًا رِثَاءً، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَنْوَاعِ الْمُتَخَالِفَةِ، فَعَمَدَ هَذَا الْمُتَصَدِّي إِلَى ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ فَنَاسَبَ بَيْنَ فِقَرِهِ وَمَقَاطِعِهِ، ثُمَّ تَكَلَّفَ تَكَلُّفًا آخَرَ فَنَاسَبَ بَيْنَ الْخُطْبَةِ الَّتِي خَطَبَهَا فِي الْجِهَادِ

اسم الکتاب : فتح القدير المؤلف : الشوكاني    الجزء : 1  صفحة : 86
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست