اسم الکتاب : غرائب التفسير وعجائب التأويل المؤلف : الكرماني، برهان الدين الجزء : 1 صفحة : 346
الغريب: قالت عائشة - رضي الله عنها -: كانوا أعلم من أن يقولوا
يستطيع ربك، إنما هو تستطع ربَّك.
قوله: (مَائِدَةً)
المائدة، الخوان عليها الطعام، اشتقاقه من ماده يميده إذا أعطاه، وامتاد فلان فلاناً: إذا طلب عطاءه، فيكون فاعله، بمعنى مفعولة، أي مَميدة.
الغريب: فاعلة في المعنى لأنها إذا أطعم الناس عليها فكأنها أطعمتهم.
وقيل: من ماد يميد إذا تحرك، كأنها تميد عليها.
قوله: (اللَّهُمَّ رَبَّنَا) .
أي يا ربنا، فهو نصب بنداء آخر عند سيبويه، وليس بوصف لقوله:
(اللَّهُمَّ) عنده، لأنه لمَّا بُنيَ جرى مجرى الأصوات، فلا يوصف، وعند
غيره ربنا وصف لقوله: (اللَّهُمَّ)
قوله: (تَكُونُ) صفة للمائدة، وليس بجواب الأمر.
وفي نزول المائدة قولان:
أحدهما: أنها نزلت، وهو المعروف لقوله: (إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ)
وهذا إخبار منهُ - سبحانه - لا يحتمل تأويلا.
من خفف "مُنَزِّلُهَا" قال: نزلت مرة، ومن شدد قال: نزك أربعين يوماً.
ابتداؤها يوم الأحد.
ابن جربر: نزلت مائدة منكوسة تطير بها الملائكة بين السماء والأرض. سلمان: نزلت سفرة حمراء بين غمامتين.
وقيل: كان عليها خبز ولحم، وقيل: عليها سبعة أرغفة وسبحة أخوان.
الغريب: عليها سمكة فيها طعمُ كلِ طعام، وقيل: عليها كل طعام إلا
(1) قال الدكتور محمد أبو شهبة:
الإسرائيليات في "المائدة التي طلبها الحواريون":
ومن الإسرائيليات التي ذكرها المفسرون عند تفسير قوله تعالى: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ، قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} .
وقد اختلف العلماء في المائدة: أنزلت أم لا؟
وجمهور العلماء سلفًا وخلفًا على نزولها، وهذا هو ظاهر القرآن، فقد وعد الله، ووعدُهُ محقق لا محالة، وذهب الحسن ومجاهد إلى أنها لم تنزل؛ وذلك لأن الله سبحانه لما توعدهم على كفرهم بعد نزولها بالعذاب البالغ غاية الحد خافوا أن يكفر بعضهم، فاستغفروا، وقالوا: لا نريدها فلم تنزل، ولا أدرى ما الحامل لهم على هذا؟!
وقد أحيطت المائدة بأخبار كثيرة، أغلب الظن: أنها من الإسرائيليات رويت عن وهب بن منبه، وكعب، وسلمان، وابن عباس، ومقاتل، والكلبي، وعطاء، وغيرهم، بل رووا في ذلك حديثًا عن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنها نزلت خبزًا ولحمًا، وأمروا أن لا يخونوا، ولا يدخروا لغد" وفي رواية: بزيادة "ولا يخبئوا، فخانوا وادخروا، ورفعوا لغد، فمسخوا قردة وخنازير"، ورفع مثل هذا إلى النبي غلط، ووهم من أحد الرواة على ما أرجح، فقد روى هذا ابن جرير في تفسيره مرفوعان وموقوفان والموقوف أصح، وقد نص على أن المرفوع لا أصل له الإمام أبو عيسى الترمذي فقال: بعد أن روى الروايات المرفوعة: "هذا حديث قد رواه أبو عاصم وغير واحد، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن خلاس، عن عمار بن ياسر موقوفا، ولا نعرفه مرفوعا إلا من حديث الحسن بن قزعة"، وبعد أن ذكر رواية موقوفة عن أبي هريرة، قال: "وهذا أصح من حديث الحسن بن قزعة، ولا نعرف للحديث المرفوع أصلا" (1) .
وقد اختلفت المرويات في هذا، فروى العوفي عن ابن عباس: أنها خوان عليه خبز وسمك، يأكلون منه أينما نزلوا، إذا شاءوا، وقال عكرمة عن ابن عباس: كانت المائدة سمكة، وأريغفة (2) ، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: أنزل على المائدة كل شيء إلا الخبز واللحم.
وقال كعب الأحبار: نزلت المائدة تطير بها الملائكة بين السماء والأرض، عليها كل الطعام إلا اللحم.
وقال وهب بن منبه: أنزلها من السماء على بني إسرائيل، فكان ينزل عليهم في كل يوم في تلك المائدة من ثمار الجنة، فأكلوا ما شاءوا من ضروب شتى، فكان يقعد عليها أربعة ألاف، وإذا أكلوا أنزل الله مكان ذلك لمثلهم فلبثوا على ذلك ما شاء الله عز وجل.
وقال وهب أيضا: نزل عليهم أقرصة من شعير، وأحوات، وحشا الله بين أضعافهن البركة، فكان قوم يأكلونن ثم يخرجون، ثم يجيء آخرون فيأكلون، ثم يخرجون، حتى أكل جميعهم، وأفضلوا، وهكذا لم يتفق الرواة على شيء، مما يدل على أنها إسرائيليات مبتدعة، وليس مرجعها إلى المعصوم صلى الله عليه وسلم والحق أبلج، والباطل لجلج لا يُتفق عليه غالبا.
وسأكتفي بذكر الرواية الطويلة التي ذكرها ابن أبي حاتم، في تفسيره بسنده، عن وهب بن منبه، عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي رضي الله عنه وخلاصتها: "أن الحواريين لما سألوا عيسى ابن مريم عليه السلام المائدة كره ذلك؛ خشية أن تنزل عليهم، فلا يؤمنوا بها، فيكون فيها هلاكهم، فلما أبوا إلا أن يدعو لهم الله لكي تنزل، دعا الله، فاستجاب له، فأنزل الله تعالى سفرة حمراء بين غمامتين؛ غمامة فوقها وغمامة تحتها، وهم ينظرون إليها في الهواء منقضة من السماء، تهوي إليهم، وعيسى عليه الصلاة والسلام يبكي خوفا من الشرط الذي اتخذ عليهم فيها فما زال يدعو حتى استقرت السفرة بين يديه، والحواريون حوله يجدون رائحة طيبة، لم يجدوا رائحة مثلها قط، وخرَّ عيسى عليه الصلاة والسلام والحواريون سجَّدًا، شكرا لله تعالى وأقبل اليهود ينظرون إليهم، فرأوا ما يغمهم، ثم انصرفوا، فأقبل عيسى عليه السلام ومن معه ينظرونها فإذا هي مغطاة بمنديل، فقال عليه السلام: من أجرؤنا على كشفه، وأوثقنا بنفسه، وأحسننا بلاء عند ربه، حتى نراها، ونحمد ربنا سبحانه وتعالى ونأكل من رزقه الذي رزقنا؟ فقالوا: يا روح الله وكلمته، أنت أولى بذلك، فقام واستأنف وضوءا جديدا، ثم دخل مصلاه، فصلى ركعات، ثم بكى طويلا، ودعا الله تعالى أن يأن له في الكشف عنها، ويجعل له ولقومه فيها بركة، ورزقا، ثم انصرف، وجلس حول السفرة وتناول المنديل، وقال: بسم الله خير الرازقين، وكشف عنها، فإذا عليها سمكة ضخمة مشوية، ليس عليها بواسير، وليس في جوفها شوك، يسيل السمن.
منها، قد نضد حولها بقول من كل صنف غير الكراث، وعند رأسها خل، وعند ذنبها ملح، وحول البقول خمسة أرغفة على واحد منها زيتون، وعلى الآخر تمرات، وعلى الآخر خمس رمانات، وفي رواية: على واحد منها زيتون، وعلى الثاني عسل، وعلى الثالث سمن، وعلى الرابع جبن، وعلى الخامس قديد، فقال شمعون رأس الحواريين لعيسى: يا روح الله وكلمته، أمن طعام الدنيا هذا، أم من طعام الجنة؟ فقال عيسى: أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات، وتنتهوا عن تنقير المسائل؟! ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا في سبب نزول هذه الآية، فقال له شمعون: لا وإله إسرائيل ما أردت بهذا سؤالا يا ابن الصديقة، فقال عيسى عليه السلام ليس شيء مما ترون من طعام الدنيا، ولا من طعام الجنة، إنما هو شيء ابتدعه الله في الهواء بالقدرة الغالبة القاهرة.
فقالوا: يا روح الله وكلمته، إنا نحب أن يرينا الله آية في هذه الآية: فقال عليه السلام: سبحان الله تعالى أما اكتفيتم؟! ثم قال: يا سمكة عودي بإذن الله تعالى حية كما كنت، فأحياها الله، وعادت حية طرية، يا سمكة عودي بإذن الله تعالى كما كنت مشوية، فعادت، ثم دعاهم إلى الأكل فامتنعوا، حتى يكون هو البادئ، فأبى، ثم دعا لها الفقراء والزمنى، وقال: كلوا من رزق ربكم، ودعوة نبيكم، واحمدوا الله تعالى الذي أنزلها لكم، فيكون مهنئوها لكم وعقوبتها على غيركم، وافتتحوا أكلكم باسم الله تعالى، واختتموه بحمد الله، ففعلوا، فأكل منها ألف وثلاثمائة إنسان بين رجل وامرأة، يصدرون عنها، كل واحد منهم شبعان يتجشَّأ، ونظر عيسى والحواريون، فإذا ما عليها كهيئته، إذ نزلت من السماء، لم ينقص منها شيء، ثم إنها رفعت إلى السماء وهم ينظرون، فاستغنى كل فقير أكل منها وبرئ كل زمن أكل منها، وندم الحواريون وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة سالت منها أشفارهم، وبقيت حسرتها في قلوبهم، إلى يوم الممات.
وكانت المائدة إذا نزلت بعد ذلك: أقبل إليها بنو إسرائيل يسعون من كل مكان، يزاحم بعضهم بعضا، فلما رأى ذلك، جعلها نوبا تنزل يوما ولا تنزل يوما، ومكثوا على ذلك أربعين يوما، تنزل عليهم غبا، عند ارتفاع النهار، فلا تزال موضوعة يؤكل منها، حتى إذا قالوا ارتفعت عنهم إلى جو السماء، وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض، حتى تتوارى عنهم.
فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام: أن اجعل رزقي لليتامى، والمساكين، والزمنى دون الأغنياء من الناس، فلما فعل ذلك ارتاب بها الأغنياء، وعمصوا ذلك، حتى شكوا فيها في أنفسهم، وشككوا فيها الناس، وأذاعوا في أمرها القبيح، والمنكر، وأدرك الشيطان منهم حاجته، وقذف وساوسه في قلوب المرتابين، فلما علم عيسى ذلك منهم قال: هلكتم وإله المسيح، سألتم نبيكم أن يطلب المائدة لكم إلى ربكم، فلما فعل، وأنزلها عليكم رحمة، ورزقا، وأراكم فيها الآيات والعبر كذبتم بها، وشككتم فيها فأبشروا بالعذاب؛ فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله تعالى، وأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام إني آخذ المكذبين بشرطي، فإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، فلما أمسى المرتابون بها، وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة مع نسائهم آمنين، فلما كان في آخر الليل مسخهم الله خنازير، فأصبحوا يتبعون الأقذار في الكناسات.
قال ابن كثير في تفسيره بعد ذكره: "هذا أثر غريب جدا قطعه ابن أبي حاتم في مواضع من هذه القصة، وقد جمعته أنا ليكون سياقه أتم، وأكمل، والله سبحانه وتعالى أعلم".
أقول: ومن هذه الروايات الغريبة دخل البلاء على الإسلام والمسلمين؛ لأن غالبها لا يصح، ولذا قال الإمام الجليل أحمد بن حنبل: "لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب؛ فإنها مناكير، وعامتها عن الضعفاء".
وقال الإمام مالك: "شر العلم الغريب، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس" وقال ابن المبارك: "العلم: الذي يجيئك من ههنا وههنا" يعني المشهور الذي رواه الكثيرون. رواها البيهقي في المدخل وروى عن الزهري أنه قال: "ليس من العلم ما لا يُعرَف، إنما العلم ما عُرِف وتواطأت عليه الألسن".
وأحب أن أنبه إلى أن أصل القصة ثابت بالقرآن الذي لا شك فيه وإنما موضع الشك في كل هذه التزيدات التي هي من الإسرائيليات.
وقد ذكر المفسرون جميعا كل ما يدور حول قصة المائدة، وإن اختلفوا في ذلك قلة وكثرة، والعجب أن أحدا لم ينبه على أصل هذه المرويات، والمنبع الذي نبعت منه، حتى الإمامين الجليلين: ابن كثير والآلوسي، وإن كان ابن كثير قد أشار من طرف خفي إلى عدم صحة معظم ما روى، ولعلهم اعتبروا ذلك مما يباح روايته، ويحتمل الصدق والكذب، فذكروه من غير إنكار له، وكان عليهم أن ينزهوا التفسير عن هذا وأمثاله.
وقد شكك في القصة الطويلة التي اختصرناها الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي، فقال: قلت: في هذا الحديث مقال، ولا يصح من قبل إسناده.
ثم عرض بعد لما روي مرفوعا، وموقوفا، وذكر ما قاله الإمام أبو عيسى الترمذي: من أن الموقوف أصح، وأن المرفوع لا أصل له.
التفسير الصحيح للآيات:
ولأجل أن نكون على بينة من أن تفسير الآيات، والانتفاع بها، والاهتداء بهديها.
ليس متوقِّفًا على ما رووا من أخبار وقصص، تفسر لك الآيات تفسيرا صحيحا، كما هو منهجنا في كل ما عرضنا له، فأقول وبالله التوفيق:
قال الله تعالى:
{إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} إذ: ظرف لما مضى من الزمان، وهو مفعول لفعل محذوف، والتقدير: اذكر -يا محمد- ما حدث في هذا الزمن البعيد؛ ليكون دليلًا على صدق نُبُوَّتِك، فما كنت معهم، ولا صاحب أهل الكتاب، ولم تكن قارئا، ولا كاتبا.
الحواريون: جمع حواري وهم: المخلصون الأصفياء من أتباع عيسى عليه السلام ويطلق أيضا على الأصحاب المخلصين من أتباع الأنبياء، وفي الحديث الصحيح: "إن لكل نبي حواريا وحواري: الزبير "يعني ابن العوام".
المائدة: الخوان الذي عليه الطعام، فإن لم يكن عليها طعام فهو خوان: السماء؛ إما المعروفة أو المراد بها جهة العلو؛ فإنها قد تطلق ويراد بها كل ما علا.
وليس المراد بالاستفهام هو أصل الاستطاعة، وأنهم ما كانوا يعلمون هذا؛ لأن السائلين كانوا مؤمنين، عارفين، عالمين بالله وصفاته، بل في أعلى درجات هذه الصفات، وإنما المراد بالسؤال: الإنزال بالفعل، من قبيل إطلاق السبب وإرادة المسبب، والمعنى: هل يجيبنا ربك -يا نبينا عيسى- إلى ذلك أم لا؟
وقال بعض العلماء: ليس ذلك بشك في الاستطاعة، وإنما هو تلطُّف في السؤال، وأدب مع الله تعالى بهذه الصيغة المهذبة كقول الرجل لآخر: هل تستطيع أن تعتبني على كذا، وهو يعلم أنه يستطيع.
وأما قول من قال: إنه من قول من كان مع الحواريين، فبعيد؛ لخروجه عن ظاهر الآية، ولا سيما أن تفسير الآية مستقيم غاية الاستقامة على ما ذكرنا.
وهذا السؤال إما لفقرهم وحاجتهم، وإما لتعرف فضل نبيهم عيسى، وفضلهم وكرامتهم عند ربهم.
وأما ما روي أن عيسى أمرهم بصيام ثلاثين يومًا، ثم ليسألوا ربهم ما يشاءون، فصاموا وسألوا، فلست منه على ثلج {قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين} .
ليس هذا شكا في إيمانهم، وإنما هو أسلوب معهود، حملا على التقوى، كما قال تعالى في حق المؤمنين الصادقين، من هذه الأمة المحمدية: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} 1 والمعنى: اتقوا الله ولا تسألوه، فعسى أن يكون فتنة لكم، وتوكَّلوا على الله في طلب الرزق، أو اتقوا الله ودعوا كثرة السؤال؛ فإنكم لا تدرون ما يحل بكم عن اقتراح الآيات؛ لأن الله سبحانه إنما يفعل الأصلح لعباده {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} ، من أهل الإيمان بالله ورسله، ولا سيما أنه سبحانه آتاكم من الآيات ما فيه غنية عن غيره {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا} بدأوا بالغذاء المادي، ثم ثنوا بالغذاء الروحي، فقالوا: {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} ، وهو مثل قول الخليل إبراهيم عليه السلام: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} . {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} أي: نزداد علما، ويقينًا بصدقك، وحقيقة رسالتك: {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} أي: المقرين المعترفين لله بالوحدانية، ولك بالنبوة، والرسالة، أو: من الشاهدين عليها لمن لم يرها ويعاينها.
{قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} .
العيد: يوم الفرح والسرور، {لِأَوَّلِنَا} : لأول أمتنا، {وَآخِرِنَا} : لآخر أمتنا أو لنا، ولمن بعدنا.
{وَآيَةً مِنْك} أي: دليلا، وحجة على قدرتك، على كل شيء، وعلى إجابتك لدعوتي، فيصدقوني فيما أبلغه عنك، {وَارْزُقْنَا} أي: من عندك رزقًا هنيئًا لا كلفة فيه، ولا تعب، {وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} أي: خير من أعطى ورزق؛ لأنك الغني الحميد.
{قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} .
أي: فمن يكفر أي: يكذب بها من أمتك يا عيسى، وعاندها، فإني أعذبه عذابا، لا أعذبه أحدًا من عالمي زمانكم، وهذا على سبيل الوعيد لهم، والتهديد.
وليس في الآية ما يدل على أنهم كفروا، ولا على أن غيرهم قد كفر بها، ولا على أنهم استعفروا من نزول المائدة، وإنما الذي دعا بعض المفسرين إلى هذه الأقوال ما سمعت من الروايات الإسرائيلية، وها نحن قد فسرنا الآيات تفسيرًا علميًّا صحيحًا من غير حاجة إلى ما روي، مما يدل دلالةً قاطعةً على أن مفسر القرآن في غنية عن الإسرائيليات التى شوهت جمال القرآن وجلاله. اهـ (الإسرائيليات والموضوعات فى كتب التفسير صـ 190: 198)
اسم الکتاب : غرائب التفسير وعجائب التأويل المؤلف : الكرماني، برهان الدين الجزء : 1 صفحة : 346