responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 7  صفحة : 8
فِيهَا، وَجَعَلَ شَرِيعَتَهُمْ عَامَّةً مَبْنِيَّةً عَلَى قَوَاعِدِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ كَالشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ لَغَلَبَتْ تَعَالِيمَ أُولَئِكَ الْوَثَنِيِّينَ، وَشُرُورِهِمْ عَلَى الْإِسْرَائِيلِيِّينَ لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالتَّوْحِيدِ مَعَ اسْتِعْدَادِهِمُ الْوِرَاثِيِّ لِقَبُولِ تَقَالِيدِ غَيْرِهِمْ وَالْخُضُوعِ لَهُمْ، وَلِذَلِكَ أُمِرُوا بِأَلَّا يُبْقُوا فِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ نَسْمَةً مَا مِمَّنْ كَانَ فِيهَا قَبْلَهُمْ، وَكَانَ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يُحَذِّرُهُمْ أَشَدَّ التَّحْذِيرِ مِنْ مَفَاسِدَ الْوَثَنِيِّينَ بَعْدَهُ.
فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّ هَذَا الْإِصْلَاحَ بِتَرْبِيَةِ أُمَّةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، بِمِثْلِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفَاسِدُ أُخْرَى فِي أَخْلَاقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ مَفَاسِدِهِ إِلَّا مَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ أَخْلَاقِ الْيَهُودِ إِلَى الْآنِ، الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ اضْطِهَادِ الْأُمَمِ لَهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَمِنْ حِرْصِهِمْ عَلَى الِانْتِفَاعِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَعَدَمِ نَفْعِ أَحَدٍ بِشَيْءٍ مِنْهُمْ، إِلَّا إِذَا كَانَ وَسِيلَةً لِمَنْفَعَةٍ لَهُمْ أَكْبَرَ مِنْهُ، أَوْ دَفْعَ ضَرَرٍ، وَتَجَرُّدُ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنْهُمْ عَنْ إِيثَارِ أَحَدٍ غَرِيبٌ عَنْهُمْ بِشَيْءٍ لَكَفَى، وَكَانَ شُبْهَةً عَظِيمَةً عَلَى كَوْنِ دِينِهِمْ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى (وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) (2: 105) .
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ سَهْلٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَبَيَانُهُ أَنَّ تِلْكَ الشَّرِيعَةَ كَانَتْ مُؤَقَّتَةً لَا دَائِمَةً، فَكَانَتْ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ هِيَ الْوَسِيلَةُ إِلَى تَكْوِينِ أُمَّةٍ مُوَحِّدَةٍ بَيْنَ أُمَمِ الْوَثَنِيَّةِ، وَكَانَ الْمُصْلِحُونَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ يَتَعَاهَدُونَ أَهْلَهَا زَمَنًا بَعْدَ زَمَنٍ بِالْإِصْلَاحِ الْمَعْنَوِيِّ، كَإِلَهِيَّاتِ زَبُورِ دَاوُدَ، وَأَدَبِيَّاتِ حُكْمِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ; حَتَّى لَا تَغْلِبَ عَلَى الْقَوْمِ الْمَادِّيَّةُ وَتُفْسِدَهُمُ الْأَثَرَةُ، ثُمَّ جَاءَ مُصْلِحُ إِسْرَائِيلَ الْأَعْظَمُ عِيسَى الْمَسِيحُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ يَنْقُضُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ بِدَعْوَتِهِمْ إِلَى نَقِيضِهِ أَوْ ضِدِّهِ، فَقَابَلَ مُبَالَغَتَهُمْ فِي الْمَادِّيَّةِ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الرُّوحَانِيَّةِ، وَمُبَالَغَتَهُمْ فِي الْأَثَرَةِ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الْإِيثَارِ الَّذِي تُعَبِّرُ عَنْهُ النَّصَارَى بِإِنْكَارِ الذَّاتِ وَمُبَالَغَتِهِمْ فِي الْجُمُودِ عَلَى ظَوَاهِرِ الشَّرِيعَةِ بِالْمُبَالَغَةِ فِي النَّظَرِ إِلَى مَقَاصِدِهَا، فَكَرَّهَ إِلَيْهِمُ السِّيَادَةَ وَالْغِنَى، وَذَمَّ التَّمَتُّعَ بِنَعِيمِ الدُّنْيَا، وَأَمَرَ بِمَحَبَّةِ الْأَعْدَاءِ وَعَدَمِ الْجَزَاءِ عَلَى الْإِيذَاءِ، وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ تَمْهِيدًا لِإِكْمَالِ اللهِ تَعَالَى دِينَهُ بِإِرْسَالِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدٍ الْمَبْعُوثِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، الْبَارَقْلِيطُ رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي يُعَلِّمُهُمْ وَيُعَلِّمُ غَيْرَهُمْ كُلَّ شَيْءٍ، فَيَجْمَعُ لِلْبَشَرِ بَيْنَ مَصَالِحِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ، وَيَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ لَا بِالْإِحْسَانِ فَقَطْ.
فَمَنْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِمْ إِصْلَاحُ الْمَسِيحِ مِنَ الْيَهُودِ ظَلُّوا عَلَى جُمُودِهِمْ وَعَصَبِيَّتِهِمْ، وَكَانُوا أَشَدَّ عَدَاوَةً لِهَذَا النَّبِيِّ وَمَنْ آمَنَ بِهِ مِمَّنْ أَثَّرَ فِيهِمْ ذَلِكَ الْإِصْلَاحُ وَكَانَ فِيهِمْ بَقِيَّةٌ مِنَ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ، سَوَاءٌ كَانَ أَصْلُهُمْ مِنَ الْيَهُودِ
أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَقْوَامِ، فَكَانُوا أَقْرَبَ مَوَدَّةً لَهُمْ، وَكَانُوا أَسْرَعَ إِلَى الْإِيمَانِ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَصَدَقَ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (7: 157)

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 7  صفحة : 8
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست