responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 7  صفحة : 353
بَدَأَ بِنَفْيِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيمَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْبَشَرِ التَّصَرُّفُ فِيهِ؛ لِعَدَمِ تَسْخِيرِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ لَهُمْ بِإِقْدَارِهِمْ عَلَى أَسْبَابِهِ، وَثَنَّى بِنَفْيِ عِلْمِ الْغَيْبِ الْخَاصِّ بِاللهِ تَعَالَى فَقَالَ: (وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) أَيْ: وَلَا أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي أَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَهُوَ مَا حَجَبَ اللهُ عِلْمَهُ عَنِ النَّاسِ بِعَدَمِ تَمْكِينِهِمْ مِنْ أَسْبَابِ الْعِلْمِ بِهِ كَكَوْنِهِ مِمَّا لَا تُدْرِكُهُ مَشَاعِرُهُمُ الظَّاهِرَةُ وَلَا الْبَاطِنَةُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُخْلَقْ مُسْتَعِدَّةً لِإِدْرَاكِهِ وَلَا لِطُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ، أَوْ لِأَنَّهَا مُسْتَعِدَّةٌ لَهُ بِالْقُوَّةِ غَيْرُ مُتَمَكِّنَةٍ مِنْ أَسْبَابِهِ بِالْفِعْلِ كَعَالَمِ الْآخِرَةِ، فَالْغَيْبُ مِنْ جِنْسِ الْمَعْلُومَاتِ كَخَزَائِنِ اللهِ مِنْ جِنْسِ الْمَقْدُورَاتِ، يُرَادُ بِهِمَا مَا اخْتُصَّ بِاللهِ تَعَالَى، فَلَمْ يُمَكِّنْ عِبَادَهُ مِنْ عَلْمِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ، أَيْ: لَمْ يُعْطِهِمُ الْقُوَى، وَلَمْ يُسَخِّرْ لَهُمُ الْأَسْبَابَ الْمُوصِّلَةَ إِلَى ذَلِكَ.
وَالْغَيْبُ قِسْمَانِ: غَيْبٌ حَقِيقِيٌّ مُطْلَقٌ، وَهُوَ مَا غَابَ عِلْمُهُ عَنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ حَتَّى الْمَلَائِكَةِ، وَفِيهِ يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) (27: 65) وَغَيْبٌ إِضَافِيٌّ، وَهُوَ مَا غَابَ عِلْمُهُ عَنْ بَعْضِ الْمَخْلُوقِينَ دُونَ بَعْضٍ، كَالَّذِي يَعْلَمُهُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ أَمْرِ عَالَمِهِمْ وَغَيْرِهِ وَلَا يَعْلَمُهُ الْبَشَرُ مَثَلًا، وَأَمَّا مَا يَعْلَمُهُ بَعْضُ الْبَشَرِ بِتَمْكِينِهِمْ مِنْ أَسْبَابِهِ وَاسْتِعْمَالِهِمْ لَهَا، وَلَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُمْ لِجَهْلِهِمْ بِتِلْكَ الْأَسْبَابِ أَوْ عَجْزِهِمْ عَنِ اسْتِعْمَالِهَا، فَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ مَعْنَى الْغَيْبِ الْوَارِدِ فِي كِتَابِ اللهِ، وَهَذِهِ الْأَسْبَابُ مِنْهَا مَا هُوَ عِلْمِيٌّ كَالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، فَإِنَّ بَعْضَ عُلَمَاءِ الرِّيَاضِيَّاتِ وَغَيْرِهَا يَسْتَخْرِجُونَ مِنْ دَقَائِقَ الْمَجْهُولَاتِ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَيَضْبُطُونَ مَا يَقَعُ مِنَ الْخُسُوفِ وَالْكُسُوفِ بِالدَّقَائِقِ وَالثَّوَانِي قَبْلَ وُقُوعِهِ بِالْأُلُوفِ مِنَ الْأَعْوَامِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ عَمَلِيٌّ كَالتِّلِغْرَافِ الْهَوَائِيِّ أَوِ اللَّاسِلْكِيِّ الَّذِي يَعْلَمُ الْمَرْءُ بِهِ بَعْضَ مَا يَقَعُ فِي أَقَاصِي الْبِلَادِ وَأَجْوَازِ الْبِحَارِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا أُلُوفٌ مِنَ الْأَمْيَالِ، وَمِنْهَا مَا قَدْ يَصِلُ إِلَى حَدِّ الْعِلْمِ مِنَ
الْإِدْرَاكَاتِ النَّفْسِيَّةِ الْخَفِيَّةِ كَالْفِرَاسَةِ وَالْإِلْهَامِ، وَأَكْثَرُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الِانْكِشَافِ لَوَائِحُ تَلُوحُ لِلنَّفْسِ لَا تَجْزِمُ بِهَا إِلَّا بَعْدَ وُقُوعِهَا، فَمَا يَصِلُ مِنْهَا إِلَى حَدِّ الْعِلْمِ الَّذِي يَجْزِمُ بِهِ صَاحِبُهُ لِاسْتِكْمَالِ شُرُوطِهِ يُشْبِهُ مَا يَنْفَرِدُ بِإِدْرَاكِهِ بَعْضُ الْمُمْتَازِينَ بِقُوَّةِ الْحَاسَّةِ، كَزَرْقَاءِ الْيَمَامَةِ الَّتِي كَانَتْ تَرَى عَلَى بُعْدٍ عَظِيمٍ مَا لَا يَرَاهُ غَيْرُهَا، أَوْ بِقُوَّةِ بَعْضِ الْمَدَارِكِ الْعَقْلِيَّةِ كَالْعُلَمَاءِ الَّذِينَ أَشَرْنَا إِلَيْهِمْ آنِفًا، وَأَظْهَرُ شُرُوطِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْإِدْرَاكِ قُوَّةُ الِاسْتِعْدَادِ الْفِطْرِيَّةِ فِي النَّفْسِ لِذَلِكَ، وَتَوَجُّهُ النَّفْسِ إِلَى الْمَدَارِكِ تَوَجُّهًا قَوِيًّا لَا يُعَارِضُهُ اشْتِغَالُ قُوًى بِغَيْرِهَا مِنَ الْمُدْرَكَاتِ. وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ هَذَا فِي حَالِ مَرَضٍ عَصَبِيٍّ أَوِ انْفِعَالٍ نَفْسِيٍّ قَوِيٍّ يَحْصُرُ هَمَّ النَّفْسِ كُلَّهُ فِيهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا) (9) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فِي هَذَا الْجُزْءِ كَلَامٌ نَفِيسٌ فِي هَذِهِ الْإِدْرَاكَاتِ الْخَفِيَّةِ الْخَاصَّةِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعُدُّهَا مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ؛ لِخَفَاءِ أَسْبَابِهَا عَنْهُ، وَيَرُدُّهُ أَنَّهَا مِمَّا يَكْثُرُ وَيَتَكَرَّرُ حَتَّى صَارَ مُعْتَادًا مِنْ أَهْلِهِ الْكَثِيرِينَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ مِنَ الْخَوَارِقِ كَمَا قَالَ مُحْيِي

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 7  صفحة : 353
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست