responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 7  صفحة : 25
فَامْتِثَالُ هَذَا الْأَمْرِ وَذَلِكَ النَّهْيِ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالتَّمَتُّعِ بِمَا يَتَيَسَّرُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فِعْلًا بِلَا تَأَثُّمٍ وَلَا حَرَجٍ، بَلْ يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ طَيِّبَ النَّفْسِ بِذَلِكَ، مُلَاحِظًا أَنَّهُ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ وَفَضْلِهِ، وَمِنْ أَسْبَابِ مَرْضَاتِهِ وَمَثُوبَتِهِ، وَأَنَّ مَرْضَاتَهُ وَمَثُوبَتَهُ عَلَيْهِ تَكُونُ عَلَى حَسَبِ شُهُودِ الْمُنْتَفِعِ لِلنِّعَمِ وَشُكْرِهِ لِلْمُنْعِمِ، وَأَعْنِي بِالشُّهُودِ أَنْ يُحْضِرَ قَلْبَهُ أَنَّهُ عَامِلٌ بِشَرْعِ اللهِ وَمُقِيمٌ لِسُّنَّةِ فِطْرَتِهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَشْكُرَ لَهُ ذَلِكَ بِالِاعْتِرَافِ وَالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ كَمَا شَكَرَهُ بِالِاعْتِقَادِ وَالِاسْتِعْمَالِ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ عَامِلًا بِالْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ.
فَعُلِمَ مِمَّا شَرَحْنَاهُ أَنَّ امْتِنَاعَ امْرِئٍ مِنَ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي رَزَقَهُ إِيَّاهَا مَعَ الدَّاعِيَةِ الْفِطْرِيَّةِ لِلِاسْتِمْتَاعِ بِهَا إِثْمٌ يَجْنِيهِ عَلَى نَفْسِهِ فِي الدُّنْيَا، وَيَسْتَحِقُّ بِهِ عِقَابَ اللهِ فِي الْآخِرَةِ بِزِيَادَتِهِ فِي دِينِ اللهِ قُرُبَاتٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهَا اللهُ، وَبِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ إِضَاعَةِ بَعْضِ حُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ عِبَادِ اللهِ كَإِضَاعَةِ حُقُوقِ امْرَأَتِهِ أَوْ عِيَالِهِ، وَنَاهِيكَ بِهِ إِذَا انْتَصَبَ قُدْوَةً لِغَيْرِهِ، فَكَانَ سَبَبًا لِغُلُوِّ بَعْضِ النَّاسِ فِي الدِّينِ وَتَحْرِيمِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى مَنْ يَقْتَدِي بِهِمْ مَا أَحَلَّهُ اللهُ تَعَالَى.
وَالتَّحْرِيمُ وَالتَّحْلِيلُ تَشْرِيعٌ: وَهُوَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الرُّبُوبِيَّةِ، فَمَنِ انْتَحَلَهُ لِنَفْسِهِ كَانَ مُدَّعِيًا لِلرُّبُوبِيَّةِ أَوْ كَالْمُدَّعِي لَهَا، وَمَنِ اتَّبَعَ فِي ذَلِكَ فَقَدِ اتَّخَذَ رَبًّا، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ تَفْسِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ) (9: 31) وَسَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ فِي التَّفْسِيرِ.
(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) فِي الْأَكْلِ وَغَيْرِهِ، فَلَا تَفْتَاتُوا عَلَيْهِ فِي تَحْرِيمٍ وَلَا تَحْلِيلٍ، وَلَا تَتَعَدَّوْا حُدُودَهُ فِيمَا أَحَلَّ وَلَا فِيمَا حَرَّمَ، فَإِنَّ اتِّقَاءَ سَخَطِهِ فِي ذَلِكَ مِنْ لَوَازِمِ إِيمَانِكُمْ بِهِ، وَمِنَ اعْتِدَاءِ حُدُودِهِ فِي الْأَكْلِ وَالشَّرَابِ الْإِسْرَافُ
فِيهَا، فَإِنَّهُ قَالَ: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (7: 31) فَمَنْ جَعَلَ شَهْوَةَ بَطْنِهِ أَكْبَرَ هَمِّهِ فَهُوَ مِنَ الْمُسْرِفِينَ، وَمَنْ بَالَغَ فِي الشِّبَعِ وَعَرَّضَ مَعِدَتَهُ وَأَمْعَاءَهُ لِلتُّخَمِ فَهُوَ مِنَ الْمُسْرِفِينَ، وَمَنْ أَنْفَقَ فِي ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ طَاقَتِهِ، وَعَرَّضَ نَفْسَهُ لِذُلِّ الدَّيْنِ أَوْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، فَهُوَ مِنَ الْمُسْرِفِينَ، وَمَا كَانَ الْمُسْرِفُ مِنَ الْمُتَّقِينَ.
وَالْأَمْرُ بِالتَّقْوَى فِي هَذَا الْمَقَامِ أَوْسَعُ مَعْنًى وَأَعَمُّ فَائِدَةً مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْإِسْرَافِ فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا آنِفًا، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ حُقُوقِ الرُّوحِ وَحُقُوقِ الْجَسَدِ، وَبِهِ يُدْفَعُ إِشْكَالُ مَنْ عَسَاهُ يَقُولُ: إِنَّ الدِّينَ شُرِعَ لِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَالتَّمَتُّعِ بِالشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ يُنَافِي التَّزْكِيَةَ وَإِنِ اقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى الْمُبَاحَاتِ، وَكَمْ أَفْضَى التَّوَسُّعُ فِي الْمُبَاحَاتِ إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ؟ وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يُقَالُ فِي الْآخِرَةِ لِأَهْلِ النَّارِ (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا) (46: 20) فَكَيْفَ يَكُونُ الِاسْتِمْتَاعُ بِالطَّيِّبَاتِ مَطْلُوبًا شَرْعًا؟ وَكَيْفَ يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى أَمْرِ الشَّرْعِ، وَهُوَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِاقْتِضَاءِ الطَّبْعِ؟

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 7  صفحة : 25
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست