responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 7  صفحة : 213
وَقَالَ: إِنَّ وَالِدَهُ أَخَذَ هَذَا الرَّجُلَ مَرَّةً وَطَافَ فِي ضَوَاحِي الْبَلَدِ مُدَّةً طَوِيلَةً انْتَهَوْا فِي آخِرِهَا إِلَى الْمَقْبَرَةِ الَّتِي دُفِنَ فِيهَا أَجْدَادُهُمْ فَزَارُوا قُبُورَهُمْ وَاسْتَرَاحُوا هُنَالِكَ وَشَكَوْا مَا عَرَضَ لَهُمْ مِنَ الْجُوعِ بِطُولِ الْمَشْيِ، فَأَظْهَرَ وَالِدُ مُحَدِّثِي لِلشَّيْخِ الْغَرِيبِ أَنَّهُ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَسْتَضِيفُوا أَجْدَادَهُ السَّادَةَ الْكِرَامَ، ثُمَّ نَادَى أَحَدُهُمْ وَاسْتَجْدَاهُ وَدَسَّ
يَدَهُ فِي تُرَابِ قَبْرِهِ فَأَخْرَجَ مِنْهُ صَحْفَةً فِيهَا عِدَّةُ مُكَرَّشَاتٍ (كُرُوشِ غَنَمٍ مَطْبُوخَةٍ وَهِيَ مَحْشُوَّةٌ بِالرُّزِّ وَاللَّحْمِ وَالصَّنَوْبَرِ) فَأَكَلُوا مِنْهَا فَإِذَا هِيَ حَارَّةٌ، وَقَدِ اسْتَطَابَهَا الرَّجُلُ الْغَرِيبُ جِدًّا حَتَّى تَوَهَّمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ طَعَامِ الدُّنْيَا، وَلَا أَذْكُرُ أَكَانَ اخْتِيَارُ هَذِهِ الْأَكْلَةِ وَإِخْرَاجُهَا بِاقْتِرَاحِ الرَّجُلِ نَفْسِهِ أَمْ بِاقْتِرَاحِ غَيْرِهِ وَإِنَّمَا أَظُنُّ ظَنًّا قَوِيًّا أَنَّهَا اقْتُرِحَتْ.
قَالَ مُحَدِّثِي: وَسَرُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ وَالِدِي أَمَرَ قَبْلَ خُرُوجِهِ بِأَنْ تُطْبَخَ عِنْدَنَا هَذِهِ الْمُكَرَّشَاتُ وَيَأْخُذَهَا أَحَدُ الْخَدَمِ أَوِ الْمُرَبِّينَ (الشَّكُ مِنِّي) فَيَدْفِنُهَا فِي ذَلِكَ الْقَبْرِ فِي صَحْفَةٍ مُغَطَّاةٍ بِحَيْثُ تَبْقَى سُخْنَةً وَلَا يُصِيبُهَا تُرَابٌ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِاخْتِبَارِ الرَّجُلِ وَحَمْلِهِ إِيَّاهُ عَلَى مُكَاشَفَتِهِ بِحَقِيقَةِ مَا يَعْمَلُهُ مِنَ الْغَرَائِبِ فِي مُقَابَلَةِ إِخْبَارِهِ إِيَّاهُ بِسِرِّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَا أَتَذَكَّرُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّنِي سَمِعْتُ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي أَوَائِلِ الْعَهْدِ بِطَلَبِ الْعِلْمِ.
فَأَمْثَالُ هَذِهِ الْوَقَائِعِ الَّتِي يَعْهَدُهَا النَّاسُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ حِيَلٌ أَوْ صِنَاعَةٌ تَتَلَقَّى بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّمْرِينِ هِيَ الَّتِي حَمَلَتْ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى الشَّكِّ وَالِارْتِيَابِ فِي آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ، وَبَعْضَهُمْ عَلَى تَسْمِيَتِهَا سِحْرًا مُبِينًا، وَبَعْضَهُمْ عَلَى التَّثَبُّتِ فِيهَا لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَهُوَ مَا طَلَبَهُ الْحَوَارِيُّونَ لِأَجْلِ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ الَّذِي تَطْمَئِنُّ بِهِ قُلُوبُهُمْ وَتَقُومُ بِهِ حُجَّتُهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ، عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مَعَ الْجُمْهُورِ مِنْ صِحَّةِ إِيمَانِهِمْ قَبْلَ طَلَبِ الْمَائِدَةِ، أَوْ لِأَجْلِ تَحْصِيلِ الْيَقِينِ فِي الْإِيمَانِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ فِي الظَّاهِرِ كَمَا اخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ; وَلِهَذِهِ الْحِكْمَةِ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى الْآيَةَ الْكُبْرَى لِرِسَالَةِ خَاتَمِ رُسُلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمِيَّةً حَتَّى لَا يَبْقَى مَجَالٌ لِارْتِيَابِ أَحَدٍ مِنْ طُلَّابِ الْحَقِّ الْمُخْلِصِينَ فِيهَا، وَهِيَ إِتْيَانُ رَجُلٍ أُمِّيٍّ عَاشَ بَيْنَ الْأُمِّيِّينَ إِلَى سِنِّ الْكُهُولَةِ بِكِتَابٍ فِيهِ أَعْلَى الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ وَأَخْبَارِ الْأُمَمِ وَالْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ الَّذِينَ لَمْ يَقْرَأْ هُوَ وَلَا قَوْمُهُ عَنْهُمْ شَيْئًا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ الَّتِي ظَهَرَ صِدْقُهَا فِي زَمَنِهِ وَبَعْدَ زَمَنِهِ بِبَلَاغَةٍ عَجَزَ الْبُلَغَاءُ عَنْ مِثْلِهَا، وَأُسْلُوبٍ أَشَدَّ إِعْجَابًا كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فَمَعْنَاهُ وَارْزُقْنَا مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا مِمَّا تَتَغَذَّى بِهِ أَجْسَامُنَا أَيْضًا، وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ تَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِحِسَابٍ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ. وَمِنْ مَحَاسِنِهِ أَنَّهُ أَخَّرَ فَائِدَةَ الْمَائِدَةِ الْمَادِّيَّةَ عَنْ ذِكْرِ فَائِدَتِهَا الدِّينِيَّةِ

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 7  صفحة : 213
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست