responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 10  صفحة : 180
مَادَّتِهِ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِالنَّبَاتِ فَأَسْنَدَ إِلَيْهِمْ حَرْثَهُ، وَأَسْنَدَ إِلَيْهِ زَرْعَهُ، أَيْ إِنْبَاتَهُ وَجَعْلَهُ حَبًّا وَثَمَرًا يُؤْكَلُ، فَيَتَوَلَّدُ ذَلِكَ الْمَنِيُّ مِنْهُ بِدُونِ فِعْلٍ لَهُمْ فِيهِ، ثُمَّ بِالْمَاءِ فَأَسْنَدَ إِلَيْهِمْ شُرْبَهُ، وَأَسْنَدَ إِلَيْهِ إِنْزَالَهُ، ثُمَّ بِالنَّارِ الَّتِي يُعَالِجُونَ بِهَا طَعَامَهُمُ الْمُؤَلَّفَ غَالِبًا مِنَ النَّبَاتِ وَالْمَاءِ، فَأَسْنَدَ إِلَيْهِمْ إِيرَاءَهَا وَإِيقَادَهَا بِحَكِّ الزَّنْدَيْنِ مِنْ شَجَرَتِهَا، وَأَسْنَدَ إِلَيْهِ إِنْشَاءَ الشَّجَرَةِ. فَعُلِمَ مِنَ السِّيَاقِ كُلِّهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالزَّرْعِ فِي قَوْلِهِ: أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (56: 64) ؟ الْإِنْبَاتُ لِمَا يُزْرَعُ حَتَّى يَصِيرَ حَبًّا وَثَمَرًا يُؤْكَلُ، وَلَمْ يَفْهَمْ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ، لِتُقَرِّبَ مِنْ عُقُولِهِمْ مَا كَانُوا يَسْتَبْعِدُونَهُ مِنَ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَنْفِي عَنْهُمْ فِعْلَ زَرْعِ الْحُبُوبِ فِي الْأَرْضِ الَّتِي يَحْرُثُونَهَا، وَيُثْبِتُهَا لِذَاتِهِ وَحْدَهُ، أَوْ يُرِيدُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُحَرِّكُ أَيْدِيَهُمْ بِفِعْلِ الزَّرْعِ بِدُونِ إِرَادَةٍ لَهُمْ لَا اخْتِيَارَ فِيهِ كَمَا يُحَرِّكُ الدَّمَ فِي أَجْسَادِهِمْ، وَيُحَرِّكُ أَعْضَاءَ الْجِهَازِ الْهَضْمِيِّ مِنَ الْمَعِدَةِ وَالْأَمْعَاءِ فِي هَضْمِ طَعَامِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَفْهَمُونَ مِنْهُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْأَرْضَ مُنْبِتَةً مَا يَبْذُرُونَهُ فِيهَا، بَلْ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ وَالْحَبَّ وَالْمَاءَ وَالْهَوَاءَ، وَسَخَّرَ هَذِهِ
الْأَسْبَابَ لَهُمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ كُلُّهُ مَا أَمْكَنَهُمْ أَنْ يَزْرَعُوا، وَلَوْلَا أَنَّهُ يُزِيلُ مَوَانِعَ الْإِنْبَاتِ وَالْآفَاتِ الَّتِي تُفْسِدُ الزَّرْعَ مَا أَمْكَنَ أَنْ يَسْتَفِيدُوا مِنْهُ بَعْدَ زَرْعِهِ وَنَبَاتِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ: لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (56: 65 - 67) وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُمْ فِي الْحَرْثِ وَالزَّرْعِ مِمَّا يُجْعَلُ حُطَامًا فَإِنَّهُ عَرَضٌ زَالَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْحَاصِلُ مِنْهُ الَّذِي يُؤْكَلُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ تَفْسِيرُ " تَزْرَعُونَهُ " بِقَوْلِهِ: تُنْبِتُونَهُ. وَبِهِ أَخَذَ الْبَغَوِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ، وَهُوَ تَفْسِيرُهُ لَهُ بِمَا لَوْلَاهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَائِدَةٌ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: أَأَنْتُمْ تُصَيِّرُونَهُ زَرْعًا أَمْ نَحْنُ نَجْعَلُهُ كَذَلِكَ؟ اهـ. فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ أَهْلَ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ وَرُوَاتِهِ لَمْ يَقُولُوا: إِنَّ فِي الْآيَةِ كَلِمَةً تَدُلُّ عَلَى الْجَبْرِ، وَكَذَلِكَ فُحُولُ الْمُفَسِّرِينَ بِالْمَعُقُولِ، وَحَاصِلُ كَلَامِهِمْ أَنَّ الزَّرْعَ أُطْلِقَ عَلَى غَايَتِهِ وَهُوَ إِخْرَاجُ نَبْتِهِ وَسَلَامَتُهُ مِنَ الْهَلَاكِ، لَا عَلَى بَدْئِهِ الَّذِي هُوَ شَقُّ الْأَرْضِ، وَإِلْقَاءُ الْبَذْرِ فِيهَا.
وَيُقَالُ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّعْذِيبِ غَايَةُ الْقِتَالِ، وَفَائِدَتُهُ وَهُوَ فِعْلُ اللهِ وَحْدَهُ، لَا مَبْدَؤُهُ وَهُوَ كَسْبُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَتْلٍ وَجَرْحٍ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي النَّصْرِ يَوْمَ بَدْرٍ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ (8: 17) وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى بِدْعَةِ الْجَبْرِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ تَخْطُرْ فِي بَالِ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ (رَاجِعْ تَفْسِيرَ ج9) عَلَى أَنَّ مَعْنَى التَّعْذِيبِ إِيجَادُ الْعَذَابِ الَّذِي هُوَ الشُّعُورُ بِالْأَلَمِ، وَهُوَ مِنْ فِعْلِ اللهِ لَا مِنْ كَسْبِ الْبَشَرِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ أَبْعَدُ مِنْ آيَةِ الْأَنْفَالِ عَنِ الْجَبْرِ وَأَهْلِهِ، وَلِلْعَذَابِ هُنَا مَعْنًى آخَرَ غَيْرَ الشُّعُورِ بِالْأَلَمِ - خَطَرَ لَنَا الْآنَ - وَهُوَ أَنَّ مَا يُصِيبُ الْجَمَاعَاتِ وَالْأُمَمَ مِنَ الْآلَامِ وَالشَّدَائِدِ يَكُونُ لِبَعْضِهَا تَرْبِيَةً وَتَمْحِيصًا تَتَهَذَّبُ بِهِ أَفْرَادُهَا، وَيَرْتَقِي بِهِ مَجْمُوعُهَا
،

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 10  صفحة : 180
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست