responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 47
وَقَدْ يُصِيبُهُمُ النَّقْصُ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَعَافِيَةِ أَبْدَانِهِمْ، وَقُوَّةِ عُقُولِهِمْ. وَلَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ لَا يُقَابِلُ بَعْضَ أَعْمَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ، لَا سِيَّمَا الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ الَّذِينَ تَشْقَى بِأَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ أُمَمٌ وَشُعُوبٌ. كَذَلِكَ نَرَى مِنَ الْمُحْسِنِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَلِلنَّاسِ مَنْ يُبْتَلَى بِهَضْمِ حُقُوقِهِ، وَلَا يَنَالُ الْجَزَاءَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ عَلَى عَمَلِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ يَنَالُ رِضَاءَ نَفْسِهِ وَسَلَامَةَ أَخْلَاقِهِ وَصِحَّةَ مَلَكَاتِهِ، فَمَا ذَلِكَ كُلُّ مَا يَسْتَحِقُّ، وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يُوَفَّى كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعَالَمِينَ جَزَاءَهُ كَامِلًا لَا يُظْلَمُ شَيْئًا مِنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)
(99: 7 - 8)
عَلَّمَنَا اللهُ أَنَّهُ رَحْمَنُ رَحِيمٌ لِيَجْذِبَ قُلُوبَنَا إِلَيْهِ، وَلَكِنْ هَلْ يَشْعُرُ كُلُّ عِبَادِهِ بِهَذِهِ الْمِنَّةِ فَيَنْجَذِبُوا إِلَيْهِ الِانْجِذَابَ الْمَطْلُوبَ؟ أَلَيْسَ فِينَا مَنْ يَسْلُكُ كُلَّ سَبِيلٍ لَا يُبَالِي بِمُسْتَقِيمٍ وَمُعْوَجٍّ؟ بَلَى، وَلِهَذَا أَعْقَبَ سُبْحَانَهُ ذِكْرَ الرَّحْمَةِ بِذِكْرِ الدِّينِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَدِينُ الْعِبَادَ وَيُجَازِيهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ فَكَانَ مِنْ رَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ أَنْ رَبَّاهُمْ بِنَوْعَيِ التَّرْبِيَةِ كِلَيْهِمَا: التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، كَمَا تَشْهَدُ بِذَلِكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةُ (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) (15: 49 - 50) .
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ مَا هِيَ الْعِبَادَةُ؟ يَقُولُونَ هِيَ الطَّاعَةُ مَعَ غَايَةِ الْخُضُوعِ، وَمَا كُلُّ عِبَارَةٍ تُمَثِّلُ الْمَعْنَى تَمَامَ التَّمْثِيلِ، وَتُجَلِّيهِ لِلْأَفْهَامِ وَاضِحًا لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ، فَكَثِيرًا مَا يُفَسِّرُونَ الشَّيْءَ بِبَعْضِ لَوَازِمِهِ وَيُعَرِّفُونَ الْحَقِيقَةَ بِرُسُومِهَا، بَلْ يَكْتَفُونَ أَحْيَانًا بِالتَّعْرِيفِ اللَّفْظِيِّ وَيُبَيِّنُونَ الْكَلِمَةَ بِمَا يَقْرُبُ مِنْ مَعْنَاهَا، وَمِنْ ذَلِكَ هَذِهِ الْعِبَارَةُ الَّتِي شَرَحُوا بِهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ، فَإِنَّ فِيهَا إِجْمَالًا وَتَسَاهُلًا. وَإِنَّنَا إِذَا تَتَبَّعْنَا آيَ الْقُرْآنِ وَأَسَالِيبَ اللُّغَةِ وَاسْتِعْمَالَ الْعَرَبِ لِـ " عَبَدَ " وَمَا يُمَاثِلُهَا وَيُقَارِبُهَا فِي الْمَعْنَى - كَخَضَعَ وَخَنَعَ وَأَطَاعَ وَذَلَّ - نَجِدُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ يُضَاهِي " عَبَدَ " وَيَحِلُّ مَحَلَّهَا وَيَقَعُ مَوْقِعَهَا، وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ لَفْظَ " الْعِبَادِ " مَأْخُوذٌ مِنَ الْعِبَادَةِ، فَتَكْثُرُ إِضَافَتُهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَلَفْظَ " الْعَبِيدِ " تَكْثُرُ إِضَافَتُهُ إِلَى غَيْرِ اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ بِمَعْنَى الرِّقِّ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ بِذَلِكَ الْمَعْنَى، وَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَكُونُ فِي اللُّغَةِ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّ اسْتِعْمَالَ الْقُرْآنِ يُخَالِفُهُ.
يَغْلُو الْعَاشِقُ فِي تَعْظِيمِ مَعْشُوقِهِ وَالْخُضُوعِ لَهُ غُلُوًّا كَبِيرًا حَتَّى يَفْنَى هَوَاهُ فِي هَوَاهُ، وَتَذُوبَ إِرَادَتُهُ فِي إِرَادَتِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى خُضُوعُهُ هَذَا عِبَادَةً بِالْحَقِيقَةِ، وَيُبَالِغُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي تَعْظِيمِ الرُّؤَسَاءِ وَالْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ، فَتَرَى مِنْ خُضُوعِهِمْ لَهُمْ وَتَحَرِّيهِمْ مَرْضَاتَهُمْ مَا لَا تَرَاهُ مِنَ الْمُتَحَنِّثِينَ الْقَانِتِينَ، دَعْ سَائِرَ الْعَابِدِينَ، وَلَمْ يَكُنِ الْعَرَبُ يُسَمُّونَ شَيْئًا مِنْ هَذَا الْخُضُوعِ عِبَادَةً، فَمَا هِيَ الْعِبَادَةُ إِذًا؟

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 47
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست