responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 377
أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ وَقَالُوا لَهُ: إِنَّهُ لَا يَرَى أَيْمَانَ بَيْعَتِكُمْ هَذِهِ بِشَيْءٍ، فَغَضِبَ جَعْفَرٌ وَدَعَا بِهِ وَجَرَّدَهُ وَضَرَبَهُ بِالسِّيَاطِ، وَمُدَّتْ يَدُهُ حَتَّى انْخَلَعَتْ كَتِفُهُ، وَارْتَكَبَ مِنْهُ أَمْرًا عَظِيمًا.
وَخَبَرُ طَلَبِ هَارُونَ الرَّشِيدِ الشَّافِعِيَّ لِلْقَضَاءِ وَإِبَائِهِ وَاخْتِفَائِهِ ثُمَّ هَرَبِهِ مَشْهُورٌ، وَسَبَبُهُ الْوَرَعُ.
وَأَشْهَرُ مِنْهُ مِحْنَةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَحَبْسُهُ وَضَرْبُهُ الضَّرْبَ الْمُبَرِّحَ؛ لِيَقُولَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ. فَهَكَذَا عَامَلَ الْمُلُوكُ الظَّالِمُونَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةَ وَبَلَغُوا مِنْهُمْ وَمِنَ النَّاسِ بِظُلْمِهِمْ مَا أَرَادُوا مِنْ إِفْسَادِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا.
وَكُلُّنَا يَعْلَمُ أَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الْأَئِمَّةَ الَّذِينَ يَدَّعِي الْأُمَرَاءُ وَالْحُكَّامُ الْيَوْمَ اتِّبَاعَهُمْ كَانُوا أَقَلَّ تَوَغُّلًا وَإِسْرَافًا فِي الظُّلْمِ مِنْ أَكْثَرِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَإِنَّكَ لَتَرَى أَكْثَرَ النَّاسِ تَبَعًا لِأَهْوَاءِ هَؤُلَاءِ الرُّؤَسَاءِ إِلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ وَهَدَاهُ - وَقَلِيلٌ مَا هُمْ - بَلْ هُمُ الْغُرَبَاءُ فِي الْأَرْضِ.
وَالْعِبْرَةُ فِي مِثْلِ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنَ الْأَحْدَاثِ أَنَّ الظَّالِمِينَ مِنْ حُكَّامِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَدَءُوا بِتَحْكِيمِ أَهْوَائِهِمُ السِّيَاسِيَّةِ فِي الدِّينِ وَأَهْلِهِ مِنَ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ، وَكَانُوا إِذَا رَأَوُا النَّاسَ قَدْ أَقْبَلُوا عَلَى رَجُلٍ مِنْ رِجَالِ الدِّينِ اسْتَمَالُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَمِلْ إِلَيْهِمْ آذَوْهُ وَأَهَانُوهُ، وَلَكِنْ كَانَ الدِّينُ وَطَلَبُ الْحَقِّ غَالِبًا عَلَى أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ نَقَلَ الْمُؤَرِّخُونَ أَنَّ
الْإِمَامَ مَالِكًا لَمْ يَزَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الضَّرْبِ فِي عُلُوٍّ وَرِفْعَةٍ، وَكَأَنَّمَا كَانَتْ تِلْكَ السِّيَاطُ حُلِيًّا حُلِّيَ بِهِ. وَلَوْ أَمَرَ أَحَدُ السَّلَاطِينِ الْمُتَأَخِّرِينَ بِضَرْبِ عَالَمٍ مِنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْعَصْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى عَهْدَ بَيْعَتِهِ صَحِيحًا أَوْ لِأَنَّهُ أَفْتَى بِمَا لَا يُوَافِقُ غَرَضَهُ (كَمَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ) لَمَا رَأَيْتَ لَهُ رِفْعَةً وَلَا احْتِرَامًا عِنْدَ النَّاسِ، وَلَأَعْرَضَ الْجَمِيعُ عَنْهُ.
فَأَمَّا الْعُقَلَاءُ الْعَارِفُونَ بِفَضْلِهِ، فَيُعْرِضُونَ عَنْهُ بِوُجُوهِهِمْ، وَأَمَّا الْغَوْغَاءُ مِنَ الْعَامَّةِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ، فَيُعْرِضُونَ عَنْهُ بِقُلُوبِهِمْ وَوُجُوهِهِمْ، وَيَعْتَقِدُونَ كُفْرَهُ أَوْ فِسْقَهُ وَابْتِدَاعَهُ.
ذَلِكَ أَنَّ الظَّالِمِينَ مِنَ الْأُمَرَاءِ قَدِ اسْتَعَانُوا بِالظَّالِمِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى إِقْنَاعِ الْعَامَّةِ بِأَنَّهُمْ أَئِمَّةُ الدِّينِ الَّذِينَ يَجِبُ اتِّبَاعُهُمْ حَتَّى فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ كِتَابِ اللهِ الَّذِي يَنْطِقُ بِأَنَّ عَهْدَ اللهِ بِالْإِمَامَةِ لَا يَنَالُ الظَّالِمِينَ. وَغَشُّوهُمْ بِأَنَّ أَئِمَّةَ الْفِقْهِ الْأَرْبَعَةِ يَحْكُمُونَ بِذَلِكَ، وَلَوْ عَرَفَ النَّاسُ سِيرَتَهُمْ مَعَ خُلَفَاءِ زَمَنِهِمْ لَمَا تَيَسَّرَ غِشُّهُمْ. هَذَا وَإِنَّ الْحَاكِمِينَ عَلَى عَهْدِهِمْ كَانُوا عَلَى عِلْمٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَاتِّبَاعٍ لَهُمَا فِي أَكْثَرِ أَعْمَالِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ، وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ فَلَا يَعْرِفُونَ مِنْ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِمَّا يَعْرِفُهُ السُّوقَةُ، وَيَعْمَلُونَ بِخِلَافِ مَا يَعْلَمُونَ، بَلْ يَشْرَعُونَ لِلنَّاسِ أَحْكَامًا جَدِيدَةً يَأْخُذُونَهَا مِنْ قَوَانِينِ الْأُمَمِ تُخَالِفُ الشَّرِيعَةَ وَلَا تُوَافِقُ مَصْلَحَةَ الْأُمَّةِ، وَيُلْزِمُونَ عُمَّالَهُمْ وَقُضَاتَهُمُ الْحُكْمَ بِهَا بِاسْمِهِمْ لَا بَاسِمَ اللهِ - تَعَالَى - (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (5: 45)

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 377
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست