responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 361
لَهُمَا وَالْمُوجِدُ لِجَمِيعِ مَا فِيهِمَا، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُمَا عَلَى أَنَّهُ جِنْسٌ لَهُ، - تَعَالَى - اللهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَكَانَ الْأَصْمَعِيُّ يُنْكِرُ فَعِيلًا بِمَعْنَى مُفْعِلٍ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ بِنَاؤُهُ مِنَ الثُّلَاثِيِّ وَيَقُولُ: إِنَّ بَدِيعًا صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ بِمَعْنَى لَا نَظِيرَ لَهُ، وَبَدِيعَ السَّمَاوَاتِ مَعْنَاهُ: الْبَدِيعَةُ سَمَاوَاتُهُ، وَفِي هَذَا تَرْكٌ لِلْقِيَاسِ الَّذِي قَضَى فِي الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ الَّتِي تُضَافُ إِلَى الْفَاعِلِ، أَنْ تَكُونَ مُتَضَمِّنَةً ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى الْمَوْصُوفِ، وَالْحَقُّ أَنَّ تَحْكِيمَ الْقِيَاسِ فِيمَا ثَبَتَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ تَحْكِيمٌ جَائِزٌ، فَمَا كَانَ لِلدَّخِيلِ فِي الْقَوْمِ أَنْ يَعْمِدَ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْ كَلَامِهِمْ، فَيَضَعَ لَهَا قَانُونًا يُبْطِلُ بِهِ كَلَامًا آخَرَ ثَبَتَ عَنْهُمْ، وَيَعُدُّهُ خَارِجًا عَنْ لُغَتِهِمْ بَعْدَ ثُبُوتِ نُطْقِهِمْ بِهِ، فَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَجْهَيْنِ صَحِيحَ الْمَعْنَى، حَكَمْنَا بِصِحَّةِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَشَوَاهِدُهُ الْمَسْمُوعَةُ أَكْثَرُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ إِيجَادَ أَمْرٍ وَإِحْدَاثَهُ، فَإِنَّمَا يَأْمُرُهُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا، فَيَكُونُ مَوْجُودًا، فَكُنْ وَيَكُونُ مِنْ كَانَ التَّامَّةِ. وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ هَذَا ضَرْبٌ مِنَ التَّمْثِيلِ، أَيْ أَنَّ تَعَلُّقَ إِرَادَتِهِ - تَعَالَى - بِإِيجَادِ الشَّيْءِ يَعْقُبُهُ وَجُودُهُ، كَأَمْرٍ يَصْدُرُ فَيَعْقُبُهُ الِامْتِثَالُ، فَلَيْسَ بَعْدَ الْإِرَادَةِ إِلَّا حُصُولُ الْمُرَادِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ هُوَ قَوْلٌ حَقِيقِيٌّ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَقَدْ وَقَعَ هَذَا الْخِلَافُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَعَجِيبٌ وُقُوعُهُ مِنْهُمْ، فَإِنَّ عِنْدَهُمْ مَذْهَبَيْنِ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي يَسْتَحِيلُ حَمْلُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا، وَهُمَا: مَذْهَبُ السَّلَفِ فِي التَّفْوِيضِ، وَمَذْهَبُ الْخَلَفِ فِي التَّأْوِيلِ، وَظَاهِرٌ أَنَّ هَذَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ، وَالْقَاعِدَةُ فِي تَأْوِيلِ مِثْلِهِ مَعْرُوفَةٌ وَمُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَهِيَ إِرْجَاعُ النَّقْلِيِّ إِلَى الْعَقْلِيِّ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَهَاهُنَا يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَمْرَ بِمَعْنَى تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ وَأَنَّ مَعْنَى (يَكُونُ) يُوجَدُ.
وَأَقُولُ: إِنَّ الْأَمْرَ بِكَلِمَةِ (كُنْ) هُنَا هُوَ الْأَصْلُ فِيمَا يُسَمُّونَهُ أَمْرَ التَّكْوِينِ، وَيُقَابِلُهُ أَمْرُ التَّكْلِيفِ، فَالْأَوَّلُ مُتَعَلِّقُ صِفَةِ الْإِرَادَةِ، وَالثَّانِي مُتَعَلِّقُ صِفَةِ الْكَلَامِ،
وَأَمْرُ التَّكْلِيفِ يُخَاطَبُ بِهِ الْعَاقِلُ فَيُسَمَّى الْمُكَلَّفَ، وَلَا يُخَاطَبُ بِهِ غَيْرُهُ فَضْلًا عَنِ الْمَعْدُومِ، وَأَمْرُ التَّكْوِينِ يَتَوَجَّهُ إِلَى الْمَعْدُومِ كَمَا يَتَوَجَّهُ إِلَى الْمَوْجُودِ؛ إِذِ الْمُرَادُ بِهِ جَعْلُهُ مَوْجُودًا، وَإِنَّمَا يُوَجَّهُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ، فَاللهُ - تَعَالَى - يَعْلَمُ الشَّيْءَ قَبْلَ وُجُودِهِ، وَأَنَّهُ سَيُوجَدُ فِي وَقْتِ كَذَا. فَتَتَعَلَّقُ إِرَادَتُهُ بِوُجُودِهِ عَلَى حَسَبِ مَا فِي عِلْمِهِ فَيُوجَدُ. وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ يُسَمِّيهِ الْأَمْرَ الْقَدَرِيَّ الْكَوْنِيَّ، وَيُسَمِّي مُقَابِلَهُ الْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ (فَيَكُونُ) فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِضَمِّ النُّونِ عَلَى تَقْدِيرِ فَهُوَ يَكُونُ كَمَا أَرَادَ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ بِفَتْحِهَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إِلَّا فِي آلِ عِمْرَانَ وَالْأَنْعَامِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ جَوَابَ الْأَمْرِ بِالْفَاءِ يَكُونُ مَنْصُوبًا.
ذَلِكَ شَأْنُهُ - تَعَالَى - فِي الْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ، وَهُوَ أَغْمَضُ أَسْرَارِ الْأُلُوهِيَّةِ، فَمَنْ عَرَفَ حَقِيقَتَهُ فَقَدْ عَرَفَ حَقِيقَةَ الْمُبْدِعِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ مَا لَا مَطْمَعَ فِيهِ. وَقَدْ عَبَّرَ عَنْ هَذَا السِّرِّ بِهَذَا التَّعْبِيرِ

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 361
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست