responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 344
وَنَتْرُكُ تَأْيِيدَ نَبِيٍّ آخَرَ، أَوْ نُنْسِهَا النَّاسَ لِطُولِ الْعَهْدِ بِمَنْ جَاءَ بِهَا، فَإِنَّنَا بِمَا لَنَا مِنَ الْقُدْرَةِ الْكَامِلَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْمُلْكِ نَأْتِي بِخَيْرٍ مِنْهَا فِي قُوَّةِ الْإِقْنَاعِ وَإِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ أَوْ مِثْلِهَا فِي ذَلِكَ. وَمَنْ كَانَ هَذَا شَأْنَهُ فِي قُدْرَتِهِ وَسَعَةِ مُلْكِهِ، فَلَا يَتَقَيَّدُ بِآيَةٍ مَخْصُوصَةٍ يَمْنَحُهَا جَمِيعَ أَنْبِيَائِهِ، وَالْآيَةُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ هِيَ: الدَّلِيلُ وَالْحُجَّةُ وَالْعَلَامَةُ عَلَى صِحَّةِ الشَّيْءِ، وَسُمِّيَتْ جُمَلُ الْقُرْآنِ آيَاتٍ؛ لِأَنَّهَا بِإِعْجَازِهَا حُجَجٌ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ، وَدَلَائِلُ عَلَى أَنَّهُ مُؤَيَّدٌ فِيهَا بِالْوَحْيِ مِنَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَمِنْ قَبِيلِ تَسْمِيَةِ الْخَاصِّ بِاسْمِ الْعَامِّ.
وَلَقَدْ كَانَ مِنْ يَهُودَ مَنْ يُشَكِّكُ فِي رِسَالَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِزَعْمِهِمْ أَنَّ النُّبُوَّةَ مُحْتَكَرَةٌ لِشَعْبِ إِسْرَائِيلَ، وَلَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْآيَاتُ فِي تَفْنِيدِ زَعْمِهِمْ هَذَا وَقَالُوا: (لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى) (28: 48) أَيْ مِنَ الْآيَاتِ، فَرَدَّ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - بَعْدَ حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ هَذَا: (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ) (28: 48) . . . إِلَخْ، وَمِنْهَا هَذِهِ الْآيَاتُ، وَالْخِطَابُ فِيهَا لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانَ الْيَهُودُ يُرِيدُونَ تَشْكِيكَهُمْ كَأَنَّهُ يَقُولُ:
إِنَّ قُدْرَةَ اللهِ - تَعَالَى - لَيْسَتْ مَحْدُودَةً وَلَا مُقَيَّدَةً بِنَوْعٍ مَخْصُوصٍ مِنَ الْآيَاتِ أَوْ بِآحَادٍ مِنْهَا لَا تَتَنَاوَلُ غَيْرَهَا، وَلَيْسَتِ الْحُجَّةُ مَحْصُورَةً فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ لَا تَتَعَدَّاهَا، بَلِ اللهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ بِخَيْرٍ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أَعْطَاهَا مُوسَى وَبِمِثْلِهَا، فَإِنَّهُ لَا يُعْجِزُ قُدْرَتَهُ شَيْءٌ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ مُلْكِهِ شَيْءٌ، كَمَا أَنَّ رَحْمَتَهُ لَيْسَتْ مَحْصُورَةً فِي شَعْبٍ وَاحِدٍ فَيَخُصُّهُ بِالنُّبُوَّةِ وَيَحْصُرُ فِيهِ هِدَايَةَ الرِّسَالَةِ، كَلَّا إِنَّ رَحْمَتَهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، كَمَا أَنَّ قُدْرَتَهُ تَتَصَرَّفُ بِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ مُلْكِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ مُشَارِكٌ، وَلَا يُنَازِعُهُ فِيهِ مُنَازِعٌ، فَيَكُونُ وَلِيًّا وَنَصِيرًا لِمَنْ كَفَرَ بِنِعَمِهِ وَانْحَرَفَ عَنْ سُنَنِهِ.
انْظُرْ كَيْفَ أَسْفَرَتِ الْبَلَاغَةُ عَنْ وَجْهِهَا فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَظَهَرَ أَنَّ ذِكْرَ الْقُدْرَةِ
وَسَعَةَ الْمُلْكِ إِنَّمَا يُنَاسِبُ الْآيَاتِ بِمَعْنَى الدَّلَائِلِ دُونَ مَعْنَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَقْوَالِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا، مِنْ حَيْثُ هِيَ دَالَّةٌ عَلَيْهَا لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ دَالَّةٌ عَلَى النُّبُوَّةِ. وَيَزِيدُ هَذَا سُفُورًا وَوُضُوحًا قَوْلُهُ عَقِبَهُ: (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ) ؟ فَقَدْ كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يَكْتَفُوا بِمَا أَعْطَى مُوسَى مِنَ الْآيَاتِ وَتَجَرَّءُوا عَلَى طَلَبِ غَيْرِهَا وَقَالُوا: (يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) (2: 55) ، وَكَذَلِكَ كَانَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ كُلَّمَا رَأَوْا آيَةً طَلَبُوا غَيْرَهَا حَتَّى رَأَوْا تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلَمْ يُؤْمِنُوا. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (كَمَا سُئِلَ مُوسَى) يَشْمَلُ كُلَّ ذَلِكَ.
قَدْ أَرْشَدَنَا اللهُ - تَعَالَى - بِهَذَا إِلَى أَنَّ التَّفَنُّنَ فِي طَلَبِ الْآيَاتِ، وَعَدَمَ الْإِذْعَانِ لِمَا يَجِيءُ بِهِ النَّبِيُّ مِنْهَا وَالِاكْتِفَاءُ بِهِ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ هُوَ دَأْبُ الْمَطْبُوعِينَ عَلَى الْكُفْرِ، الْجَامِدِينِ عَلَى الْمُعَانَدَةِ وَالْمُجَاحَدَةِ، فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ إِنْكَارِ هَذَا الطَّلَبِ: (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيْمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) وَيُوَضِّحُ هَذَا قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي آيَةٍ أُخْرَى (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ)

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 344
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست