responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 326
تَعَالَى - لَهُمْ هُوَ الْكُفْرُ، فَإِنَّ اللهَ لَا يُعَادِي قَوْمًا لِذَوَاتِهِمْ وَلَا لِأَنْسَابِهِمْ، وَإِنَّمَا يَكْرَهُ لَهُمُ الْكُفْرَ وَيُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهِ مُعَاقَبَةَ الْعَدُوِّ لِلْعَدُوِّ.
(أَقُولُ) : وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ عَذَابَ اللهِ وَانْتِقَامَهُ مِنَ الْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ لَا يُشْبِهُ انْتِقَامَ مُلُوكِ الدُّنْيَا وَزُعَمَائِهَا، وَإِنَّمَا قَضَتْ سُنَّتُهُ - تَعَالَى - بِأَنْ يَكُونَ لِكُلِّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ الْإِنْسَانُ فِي ظَاهِرِهِ أَوْ فِي نَفْسِهِ وَضَمِيرِهِ أَثَرٌ فِي نَفْسِ الْعَامِلِ يُزَكِّيهَا وَيُدَسِّيهَا، وَسَعَادَةُ الْإِنْسَانِ فِي الْآخِرَةِ أَوْ شَقَاؤُهُ تَابِعٌ لِآثَارِ اعْتِقَادَاتِهِ وَأَعْمَالِهِ فِي نَفْسِهِ. وَلِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى -: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) (43: 76) .
ثُمَّ صَرَّحَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُنْزَلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى آيَةٍ أُخْرَى تُبَيِّنُهُ وَتَشْهَدُ لَهُ، فَإِنَّ مَا كَانَ بَيِّنًا فِي نَفْسِهِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِمَّا
يَحْتَاجُ فِي بَيَانِهِ إِلَى غَيْرِهِ، فَقَالَ: (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْوَحْيَ مِنَ اللهِ لِلنَّبِيِّ يُسَمَّى تَنْزِيلًا وَإِنْزَالًا وَنُزُولًا لِبَيَانِ عُلُوِّ مَرْتَبَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، لَا أَنَّ هُنَاكَ نُزُولًا حِسِّيًّا مِنْ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ إِلَى مَكَانٍ مُنْخَفِضٍ.
قَالَ هَذَا شَيْخُنَا: وَعُلُوُّ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى خَلْقِهِ حَقِيقَةٌ أَثْبَتَهَا لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ، لَا حَاجَةَ إِلَى تَأْوِيلِهَا بِعُلُوِّ مَرْتَبَةِ الرُّبُوبِيَّةِ عَلَى مَرْتَبَةِ الْمَخْلُوقِينَ هَرَبًا مِنِ اسْتِلْزَامِهَا الْحَصْرَ وَالتَّحَيُّزَ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنَّ التَّنْزِيهَ الْقَطْعِيَّ يُبْطِلُ اللُّزُومَ. وَمَسْأَلَةُ الْجِهَاتِ نِسْبِيَّةٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ، وَإِذْ كَانَ الرَّبُّ - تَعَالَى - بَائِنًا مِنْ خَلْقِهِ وَهُوَ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ، فَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا يَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهِ إِلَّا أَنَّهُ فَوْقَهُمْ، وَإِذَا كَانَ الْمَلَائِكَةُ (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) (16: 50) فَمَاذَا يُقَالُ فِيمَنْ دُونَهُمْ؟ وَتُوَجُّهُ الْبَشَرِ إِلَى رَبِّهِمْ فِي جِهَةِ الْعُلُوِّ وَقِبَلَ السَّمَاءِ فِطْرِيٌّ مَعْرُوفٌ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الْمِلَلِ، فَهُوَ فَوْقَ الْخَلْقِ فِي جُمْلَتِهِ وَفَوْقَ الْعِبَادِ أَيْنَمَا كَانُوا مِنْ أَرْضٍ أَوْ سَمَاءٍ، وَهُنَالِكَ مَقَامُ الْإِطْلَاقِ الَّذِي لَا يُقَيَّدُ بِقَيْدٍ وَلَا يُحْصَرُ فِي حَيِّزٍ، وَإِنَّمَا الْحَيِّزُ وَالْحَصْرُ مِنَ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ وَالْاعْتِبَارِيَّةِ فِي دَاخِلِ دَائِرَةِ الْخَلْقِ. وَصَحَّ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِذَا سَمِعُوا كَلَامَ اللهِ فِي السَّمَاوَاتِ عَرَاهُمْ مَا عَرَاهُمْ مِمَّا أُشِيرَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (34: 23) .
وَشَيْخُنَا عَلَى دَعْوَتِهِ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ كَانَ لَا يَزَالُ مُتَأَثِّرًا بِمَذْهَبِ الْأَشْعَرِيَّةِ.
وَأَمَّا كَوْنُ آيَاتِ الْقُرْآنِ بَيِّنَاتٍ فَهِيَ أَنَّهَا بِإِعْجَازِهَا الْبَشَرَ وَبِقَرْنِ الْمَسَائِلِ الْاعْتِقَادِيَّةِ فِيهَا بِبَرَاهِينِهَا، وَالْأَحْكَامُ الْأَدَبِيَّةُ وَالْعِلْمِيَّةُ بِوُجُوهِ مَنَافِعِهَا، لَا تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا هِدَايَةٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - وَأَنَّهَا جَدِيرَةٌ بِالْاتِّبَاعِ، بَلْ هِيَ دَلِيلٌ عَلَى نَفْسِهَا عِنْدَ صَاحِبِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ كَالنُّورِ يُظْهِرُ الْأَشْيَاءَ وَهُوَ ظَاهِرٌ بِنَفْسِهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ يُظْهِرُهُ (وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ) الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ نُورِ الْفِطْرَةِ وَانْغَمَسُوا فِي ظُلْمَةِ التَّقْلِيدِ، فَتَرَكُوا طَلَبَ الْحَقِّ بِذَاتِهِ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ فِطْرَتَهُمْ نَاقِصَةٌ لَا اسْتِعْدَادَ فِيهَا لِإِدْرَاكِهِ بِذَاتِهِ عَلَى شِدَّةِ ظُهُورِهِ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُونَهُ مِنْ كَلَامِ مُقَلِّدِيهِمْ، وَكَذَا الَّذِينَ ظَهَرَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى حَسَدًا لِمَنْ ظَهَرَ الْحَقُّ عَلَى يَدَيْهِ وَعِنَادًا لَهُ.

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 326
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست