responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 316
أَيْ بِئْسَ شَيْئًا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، هُوَ كُفْرُهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ كَمَا كَانُوا يَنْتَظِرُونَ. شَرَى الشَّيْءَ وَاشْتَرَاهُ: يُسْتَعْمَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَعْنَى بَاعَ الشَّيْءَ، وَبِمَعْنَى ابْتَاعَهُ؛ لِأَنَّ الْحَرْفَ يَدُلُّ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ. وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ (اشْتَرَوْا) هُنَا بِمَعْنَى بَاعُوا؛ أَيْ أَنَّهُمْ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ وَبَاعُوهَا بِمَا حَرَصُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بَغْيًا وَحَسَدًا لِلنَّبِيِّ وَحُبًّا فِي الرِّيَاسَةِ وَاعْتِزَازًا
بِالْجِنْسِيَّةِ، وَبِمَا كَانَ لِكُلٍّ مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَالْمَرْءُوسِينَ مِنَ الْمَنَافِعِ الْمُتَبَادَلَةِ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، فَهَذَا كُلُّهُ يُعَدُّ ثَمَنًا لِأَنْفُسِهِمُ الَّتِي خَسِرُوهَا بِالْكُفْرِ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ فَقَدُوهَا كَمَا يَفْقِدُ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ، وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّ (اشْتَرَوْا) هُنَا بِمَعْنَى ابْتَاعُوا، أَيْ أَنَّهُمْ جَعَلُوا أَنْفُسَهُمْ ثَمَنًا لِلْكُفْرِ الَّذِي ذُكِرَتْ عِلَّتُهُ آنِفًا. وَفِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُمْ قَدْ أَنْقَذُوا أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ الْكُفْرِ، أَيْ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ ذَلِكَ وَيَدَّعُونَهُ فِي الظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانُوا فِي الْبَاطِنِ قَدْ عَرَفُوا أَنَّ مَا جَاءَهُمْ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي كَانُوا يَنْتَظِرُونَ، وَأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَكْتُمُونَ.
وَقَدْ فُهِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ مَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) ، فَهُوَ تَعْلِيلٌ لِكُفْرِهِمْ لَا لِشِرَائِهِمْ، أَيْ كَفَرُوا بِهِ لِمَحْضِ الْبَغْيِ الَّذِي أَثَارَهُ الْحَسَدُ كَرَاهَةَ أَنْ يُنْزِلَ اللهُ الْوَحْيَ مِنْ فَضْلِهِ بِمُقْتَضَى مَشِيئَتِهِ، وَأَيُّ بَغْيٍ أَقْبَحُ مِنْ بَغْيِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَحْجُرَ عَلَى فَضْلِ اللهِ، وَيُقَيِّدَ رَحْمَتَهُ، فَلَا يَرْضَى مِنْهُ أَنْ يَجْعَلَ الْوَحْيَ فِي آلِ إِسْمَاعِيلَ كَمَا جَعَلَهُ فِي آلِ أَخِيهِ إِسْحَاقَ؟ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو (يُنْزِلَ) بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْإِنْزَالِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّنْزِيلِ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: (فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ) فَهُوَ الْغَضَبُ الَّذِي اسْتَوْجَبُوهُ حَدِيثًا بِالْكُفْرِ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوْقَ ذَلِكَ الْغَضَبِ الَّذِي لَحِقَهُمْ مِنْ قَبْلُ بِإِعْنَاتِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالْكُفْرِ بِهِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) (2: 61) ، ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ بَعْدَ الْغَضَبِ الْمُزْدَوِجِ فَقَالَ: (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ) أَيْ مَقْرُونٌ بِالْإِهَانَةِ وَالْإِذْلَالِ، وَبِذَلِكَ صَارَ بِمَعْنَى الْآيَةِ السَّابِقَةِ، فَكَأَنَّ الْجَزَاءَ وَاحِدٌ تَكَرَّرَ بِتَكَرُّرِ الذَّنْبِ.
وَقَالَ: (وَلِلْكَافِرِينَ) وَلَمْ يَقُلْ (وَلَهُمْ) لِمَا فِي الْمَظْهَرِ مِنْ بَيَانِ التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الَّذِي سَجَّلَهُ عَلَيْهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَهَذَا الْعَذَابُ مُطْلَقٌ، يَشْمَلُ عَذَابَ الدُّنْيَا وَعَذَابَ الْآخِرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذُنُوبَ الْأُمَمِ تَتْبَعُهَا عُقُوبَتُهَا فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهَا أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لَهَا، وَإِنَّمَا جَعَلَهَا اللهُ كَذَلِكَ لِتَكُونَ عِبْرَةً يَتَأَدَّبُ الْمُتَأَخِّرُونَ بِمَا أَصَابَ مِنْهَا الْمُتَقَدِّمِينَ، وَكَذَلِكَ الْحَالُ فِي عُقُوبَةِ الْآخِرَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَفْرَادِ؛ فَإِنَّ عَذَابَ كُلِّ شَخْصٍ إِنَّمَا يَكُونُ بِحَسَبِ تَأْثِيرِ الْجَهْلِ فِي عَقْلِهِ وَفَسَادِ الْأَخْلَاقِ وَسُوءِ الْأَعْمَالِ فِي نَفْسِهِ.
اعْتَذَرَ بَعْضُ الْيَهُودِ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ عَنْ عَدَمِ الْإِيمَانِ بِأَنَّ قُلُوبَهُمْ غُلْفٌ
لَمْ تَفْهَمِ الدَّعْوَةَ وَلَمْ تَعْقِلِ الْخِطَابَ، فَرَدَّ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ بِبَيَانِ السَّبَبِ الْحَقِيقِيِّ فِي تَرْكِ الْإِيمَانِ، وَمَا اسْتَحَقُّوهُ عَلَيْهِ

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 316
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست