responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 310
وَأَمَّا الْعَذَابُ الْآجِلُ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ) فَهُوَ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ مَعْقُولَ الْمَعْنَى، وَهَادٍ إِلَى حِكْمَةٍ عُلْيَا؛ ذَلِكَ أَنَّ النُّفُوسَ الْبَشَرِيَّةَ إِذَا سَحَلَ مَرِيرُهَا، وَاخْتَلَّتْ بِفَسَادِ الْأَخْلَاقِ أُمُورُهَا، وَكَثُرَتْ فِي ذَا الْعَالَمِ شُرُورُهَا، حَتَّى سَلَبَتْ مَا أَعَدَّهُ اللهُ - تَعَالَى - لِمَنْ حَافَظُوا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَاسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ، تَكُونُ جَدِيرَةً بِأَنْ تُسْلَبَ فِي الْآخِرَةِ مَا أَعَدَّهُ اللهُ - تَعَالَى - لِلْأَرْوَاحِ الْعَالِيَةِ، وَمَا وَعَدَ بِهِ أَصْحَابَ النُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ، فَإِنَّ سَعَادَةَ الدَّارِ الدُّنْيَا لَمْ تَكُنْ أَجْرًا عَلَى أَعْمَالٍ بَدَنِيَّةٍ لَا تَتَعَلَّقُ بِصَلَاحِ النَّفْسِ فِي خُلُقٍ وَلَا نِيَّةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ ثَمَرَةُ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ الَّتِي يُتَوَسَّلُ إِلَيْهَا بِعَمَلِ الْحِسِّ، فَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَ سَعَادَةِ الدُّنْيَا، فَكَيْفَ يَكُونُ نَعِيمُ الْآخِرَةِ جَزَاءَ حَرَكَاتٍ جَسَدِيَّةٍ، وَهِيَ الدَّارُ الَّتِي تَغْلِبُ فِيهَا الرُّوحَانِيَّةُ؟ (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (91: 7 - 10) .
(وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) بَلْ هُوَ مُحِيطٌ بِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ. وَقَدْ قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ الْمُفَضَّلِ (تُرَدُّونَ) بِالْخِطَابِ لِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: (مِنْكُمْ) كَمَا قَرَأَ
الْجُمْهُورُ (تَعْمَلُونَ) بِالْخِطَابِ لِذَلِكَ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ وَيَعْقُوبَ (يَعْمَلُونَ) عَلَى الْغِيبَةِ لِرُجُوعِ الضَّمِيرِ إِلَى (مَنْ يَفْعَلُ) .
ثُمَّ أَكَّدَ اللهُ - تَعَالَى - ذَلِكَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ وَبَيَّنَ سَبَبَهُ بِقَوْلِهِ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ) أَيْ جَعَلُوا حُظُوظَهُمْ مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بَدَلًا مِنَ الْآخِرَةِ بِمَا فَرَّطُوا فِي جَنْبِ اللهِ، وَأَهْمَلُوا مِنْ شَرِيعَتِهِ، حَتَّى لَمْ يَتَّبِعُوا مِنْهَا إِلَّا مَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ، وَلَا يُعَارِضُ شَهَوَاتِهِمْ كَالْحَمِيَّةِ الَّتِي حَمَلَتْ كُلَّ حَلِيفٍ عَلَى الِانْتِصَارِ لِمُحَالِفِهِ الْمُشْرِكِ وَمُظَاهَرَتِهِ إِيَّاهُ عَلَى قَوْمِهِ الَّذِينَ تَجْمَعُهُ بِهِمْ رَابِطَةُ الدِّينِ وَالنَّسَبِ (فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ) ؛ لِأَنَّ عِلَّتَهُ ذَاتِيَّةٌ فِيهِمْ، وَهِيَ ظُلْمَةُ أَرْوَاحِهِمْ وَفَسَادُ أَخْلَاقِهِمْ (وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) بِشَفَاعَةِ شَافِعٍ، أَوْ وِلَايَةِ وَلِيٍّ مِنْ دُونِ اللهِ (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (2: 255) ؟ وَأَنَّى يُؤْذَنُ بِالشَّفَاعَةِ لِمَنْ سَجَّلَتْ عَلَيْهِمُ الشَّقَاءَ أَعْمَالُهُمْ بِإِحَاطَةِ الْخَطَايَا بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، حَتَّى أَخَذَتْ عَلَيْهِمْ طَرِيقَ الرَّحْمَةِ، وَقَطَعَتْ عَلَيْهِمْ بِاخْتِيَارِهِمْ سَبِيلَ الرِّضْوَانِ الْإِلَهِيِّ، فَمِنَ الْجَهْلِ إِهْمَالُهُمُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ، وَنَقْضُهُمْ مِيثَاقَ اللهِ - تَعَالَى - فِي أَهَمِّ مَا وَاثَقَهُمْ بِهِ، وَاعْتِمَادُهُمْ مَعَ هَذَا كُلِّهِ عَلَى الشُّفَعَاءِ (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (21: 28) .
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْأَلْفَاظِ فِي قَوْلِهِ: (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ) أَنَّ الضَّمِيرَ لِلشَّأْنِ عِنْدَ الْمُفَسِّرِ وَالْجَمَاهِيرِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْمَعْهُودَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنَّ الْجُمْلَةَ الَّتِي تَقْضِي الْحَالُ فِيهَا بِتَقَدُّمِ الِاسْمِ وَتَأَخُّرِ الْفِعْلِ، أَوْ مَا يُشْتَقُّ مِنْهُ لَا بُدَّ أَنْ تُصَدَّرَ بِضَمِيرٍ تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا شَوَاهِدٌ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ يَتَّفِقُ فِيهَا ذَوْقُهُمْ، وَإِنِ اخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي إِعْرَابِهَا.

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 310
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست