responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 297
مِثْلُ هَذِهِ الذَّبْذَبَةِ تَكُونُ مِنَ الْأُمَمِ فِي طَوْرِ الضَّعْفِ وَلَا سِيَّمَا ضَعْفُ الْإِرَادَةِ وَالْعِلْمِ، وَلَوْ كَانَ لِأُولَئِكَ الْقَوْمِ إِرَادَةٌ قَوِيَّةٌ لَثَبَتُوا ظَاهِرًا عَلَى مَا يَعْتَقِدُونَهُ بَاطِلًا، وَلَمْ يُصَانِعُوا مُخَالِفِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ الْأُولَى أَوِ الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ، وَقَدْ وَبَّخَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ هَذَا التَّلَوُّنَ وَالدِّهَانَ فِي الدِّينِ، وَلِقَاءَ كُلِّ فَرِيقٍ بِوَجْهٍ يُظْهِرُونَ لَهُ مَا يُسِرُّونَ مِنْ أَمْرِ الْآخَرِ، فَقَالَ: (أَوَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) يَعْنِي أَيَقُولُ اللَّائِمُونَ أَوِ الْمُنَافِقُونَ كُلُّهُمْ مَا قَالُوا، وَيَكْتُمُونَ مِنْ صِفَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كَتَمُوا، وَيُحَرِّفُونَ مِنْ كِتَابِهِمْ مَا حَرَّفُوا، وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ مِنْ كُفْرٍ وَكَيْدٍ، وَمَا يُعْلِنُونَ مِنْ إِظْهَارِ إِيمَانٍ وَوُدٍّ، فَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ - تَعَالَى -، فَلِمَ لَا يَحْفَلُونَ بِاطِّلَاعِهِ عَلَى ظَوَاهِرِهِمْ، وَإِحَاطَتِهِ بِمَا يَجُولُ فِي أَطْوَاءِ ضَمَائِرِهِمْ، وَبِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى عِلْمِهِ مِنْ خِزْيٍ فِي الدُّنْيَا وَعَذَابٍ فِي الْآخِرَةِ.
قَالَ - تَعَالَى -: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)
ذَلِكَ الَّذِي تَقَدَّمَ هُوَ شَأْنُ عُلَمَائِهِمْ، يُحَرِّفُونَ كِتَابَ اللهِ وَيَخْرُجُونَ مِنْ حُكْمِهِ بِالتَّأْوِيلِ، وَهَذَا هُوَ شَأْنُ عَامَّتِهِمْ، لَا عِلْمَ لَهُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْكِتَابِ، وَلَا مَعْرِفَةَ لَهُمْ بِالْأَحْكَامِ، وَمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الدِّينِ فَهُوَ أَمَانِيٌّ يَتَمَنَّوْنَهَا وَتَجُولُ صُوَرُهَا فِي خَيَالَاتِهِمْ، وَهَذِهِ الصُّوَرُ هِيَ كُلُّ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِدِينِهِمْ، وَمَا هُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهَا، وَإِنَّمَا هِيَ ظُنُونٌ
يَلْهَوْنَ بِهَا، وَهَذَا هُوَ مَحِلُّ الذَّمِّ لَا مُجَرَّدُ كَوْنِهِمْ أُمِّيِّينَ، فَإِنَّ الْأُمِّيَّ قَدْ يَتَلَقَّى الْعِلْمَ عَنِ الْعُلَمَاءِ الثِّقَاتِ وَيَعْقِلُهُ عَنْهُمْ بِدَلِيلِهِ فَيَكُونُ عِلْمُهُ صَحِيحًا، وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ سُمِّيَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَمَانِيِّ ظَنًّا مَعَ أَنَّهُمْ أَخَذُوهُ عَنْ رُؤَسَاءِ دِينِهِمُ الْمَوْثُوقِ بِهِمْ عِنْدَهُمْ وَسَلَّمُوهُ تَسْلِيمًا، فَلَمْ يَكُنْ فِي نُفُوسِهِمْ مَا يُخَالِفُهُ، وَمِثْلُ هَذَا يُسَمَّى اعْتِقَادًا وَعِلْمًا؟ نَقُولُ: إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالدَّلِيلِ وَلَا يُسَمِّي مِثْلَ ذَلِكَ عِلْمًا إِلَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ مَعْنَى الْعِلْمِ. عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَاجِحًا وَمُسَلَّمًا إِلَّا لِأَنَّ مُقَابِلَهُ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ، وَلَوْ أُرِدَ عَلَيْهِمْ لَتَزَلْزَلَ مَا عِنْدَهُمْ ثُمَّ زَالَ، أَوْ ظَهَرَ فِيهِ الشَّكُّ وَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ الِاحْتِمَالُ، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ: إِنَّ الظَّنَّ أَوِ التَّرَدُّدَ كَانَ نَائِمًا فِي نُفُوسِهِمْ، وَهُوَ عُرْضَةٌ لِأَنْ يُوقِظَهُ نَقِيضُهُ وَيَذْهَبَ بِهِ مَتَى طَرَأَ، وَنَوْمُ الظَّنِّ لَا يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى اعْتِقَادًا.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذِهِ الْأَمَانِيُّ تُوجَدُ فِي كُلِّ الْأُمَمِ فِي حَالِ الضَّعْفِ وَالِانْحِطَاطِ، يَفْتَخِرُونَ بِمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَبِسَلَفِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا مُهْتَدِينَ بِهَا، وَبِمَا لَهُمْ مِنَ الْآثَارِ الَّتِي كَانَتْ ثَمَرَةَ تِلْكَ الْهِدَايَةِ، وَتُسَوِّلُ لَهُمُ الْأَمَانِيُّ أَنَّ ذَلِكَ كَافٍ فِي نَجَاتِهِمْ وَسَعَادَتِهِمْ وَفَضْلِهِمْ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ. هَكَذَا كَانَ الْيَهُودُ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ، وَقَدِ اتَّبَعْنَا سُنَنَهُمْ وَتَلَوْنَا تُلُوَّهُمْ، فَظَهَرَ فِينَا تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ((لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ)) وَإِنَّنَا نَقْرَأُ أَخْبَارَهُمْ فَنَسْخَرُ مِنْهُمْ وَلَا نَسْخَرُ مِنْ أَنْفُسِنَا، وَنَعْجَبُ لَهُمْ كَيْفَ رَضُوا بِالْأَمَانِيِّ، وَنَحْنُ غَارِقُونَ فِيهَا!

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 297
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست