responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 292
بِاعْتِبَارِ مَا يُعْهَدُ فِي التَّخَاطُبِ الْعَرَبِيِّ، كَأَنَّ عَرَبِيًّا يُحَدِّثُ آخَرَ وَيَقُولُ لَهُ: إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ فِي قَسْوَتِهَا تُشْبِهُ الْحِجَارَةَ أَوْ تَزِيدُ عَلَيْهَا. وَيَصِحُّ فِيهَا التَّقْسِيمُ، أَيْ أَنَّ الْقَسْوَةَ عَمَّتْ قُلُوبَكُمْ، فَأَقَلُّهَا قَسْوَةً تُشْبِهُ الْحَجَرَ الصَّلْدَ، وَمِنْهَا مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قَسْوَةً، وَأَظْهَرُ مِنْهُمَا أَنْ تَكُونَ لِلْإِضْرَابِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُبَالَغَةِ، أَيْ بَلْ هِيَ أَشَدُّ قَسْوَةً مِنَ الْحِجَارَةِ؛ إِذْ لَا شُعُورَ فِيهَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَلَا عَاطِفَةَ تَفِيضُ مِنْهَا بِعِبْرَةٍ، وَالْحِجَارَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مِنْهَا مَا يَفِيضُ بِالْخَيْرَاتِ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مَوْضِعَ ظُهُورِ آثَارِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْجَمَادَاتِ.
وَصَفَ الْحِجَارَةَ بِالصِّفَاتِ الثَّلَاثَةِ الْآتِيَةِ بَعْدَ أَنْ شَبَّهَ الْقُلُوبَ بِهَا فِي الصَّلَابَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْقُلُوبِ وَبَيْنَهَا بِالْإِضْرَابِ، وَالِانْتِقَالِ إِلَى أَنَّ الْقُلُوبَ أَشَدُّ صَلَابَةً، وَأَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَجْهَ ضَعْفِ الصَّلَابَةِ فِي الْحِجَارَةِ وَشِدَّتِهَا فِي الْقُلُوبِ، فَكَأَنَّ الْكَلَامَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عُذْرًا عَنِ الْحِجَارَةِ دُونَ الْقُلُوبِ، وَالْمُرَادُ بِالْقُلُوبِ مَا اعْتُبِرَتْ عُنْوَانًا لَهُ وَهُوَ الْوِجْدَانُ وَالْعَقْلُ، وَأَكْثَرُ مَا اسْتُعْمِلَ فِي الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ سَائِقُ الْإِقْنَاعِ وَالْإِذْعَانِ، وَيُطْلَقُ لَفْظُ الْقَلْبِ عَلَى النَّفْسِ النَّاطِقَةِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْقَلْبِ أَنْ يَتَأَثَّرَ مِمَّا يَتَأَثَّرُ مِنْهُ الْوِجْدَانُ أَوِ الْعَقْلُ أَوِ الرُّوحُ مُطْلَقًا، وَفِي الْكَلَامِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ أَنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ فَقَدَتْ خَاصِّيَّةَ التَّأَثُّرِ وَالِانْفِعَالِ بِمَا يَرِدُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْآيَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ خَوَاصِّ الرُّوحِ الْإِنْسَانِيِّ، حَتَّى كَأَنَّ أَصْحَابَهَا هَبَطُوا مِنْ دَرَجَةِ الْحَيَوَانِ
إِلَى دَرَكَةِ الْجَمَادِ كَالْحِجَارَةِ، بَلْ نَزَلُوا عَنْ دَرَكَةِ الْحِجَارَةِ أَيْضًا، وَذَلِكَ مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) التَّفَجُّرُ: تَفَعُّلُ مِنَ الْفَجْرِ وَهُوَ الشِّقُّ الْوَاسِعُ يَكُونُ لِلْمُطَاوَعَةِ، كَفَجَّرْتُهُ فَتَفَجَّرَ (بِالتَّشْدِيدِ فِيهِمَا) وَيَكُونُ لِتَكَرُّرِ الْفِعْلِ وَحُصُولِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَمِثْلُهُ التَّشَقُّقُ إِلَّا أَنَّهُ أَعَمُّ، وَلِمَا فِي التَّفَجُّرِ مِنْ مَعْنَى السَّعَةِ عَبَّرَ بِهِ عَنْ خُرُوجِ الْأَنْهَارِ مِنَ الصُّخُورِ الْكِبَارِ وَهُوَ مَعْهُودٌ فِي الْجِبَالِ، وَعَبَّرَ بِالتَّشَقُّقِ لِخُرُوجِ الْمَاءِ الَّذِي يُصَدَّقُ بِالْقَلِيلِ مِنْهُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْحِجَارَةَ عَلَى صَلَابَتِهَا وَقَسْوَتِهَا تَتَأَثَّرُ بِالْمَاءِ الرَّقِيقِ اللَّطِيفِ فَيَشُقُّهَا وَيَنْفُذُ مِنْهَا بِقِلَّةٍ أَوْ كَثْرَةٍ، فَيُحْيِي الْأَرْضَ وَيَنْفَعُ النَّبَاتَ وَالْحَيَوَانَ. وَأَمَّا هَذِهِ الْقُلُوبُ فَلَمْ تَعُدْ تَتَأَثَّرُ بِالْحِكَمِ وَالنُّذُرِ وَلَا بِالْعِظَاتِ وَالْعِبَرِ، فَالْحِكَمُ لَا تَقْوَى عَلَى شَقِّهَا وَالنُّفُوذِ مِنْهَا إِلَى أَعْمَاقِ الْوِجْدَانِ، وَأَنْوَارُ الْفِطْرَةِ قَدِ انْطَفَأَتْ فِيهَا فَلَا يَظْهَرُ شُعَاعُهَا عَلَى إِنْسَانٍ، وَمِنَ الْحِجَارَةِ مَا يَشُقُّهُ الْمَاءُ الْقَلِيلُ كَمَاءِ الْعُيُونِ وَالْيَنَابِيعِ الْحَجَرِيَّةِ، وَمِنْهَا مَا لَا يُفَجِّرُهُ إِلَّا الْمَاءُ الْقَوِيُّ الْغَمْرُ الَّذِي يُسَمَّى نَهْرًا. (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) وَهُوَ مَا يَنْحَطُّ مِنْ أَعْلَى الْجَبَلِ، وَمِنْ أَثْنَائِهِ بِسَبَبِ أَثَرٍ مِنْ آثَارِ الْقَهْرِ الْإِلَهِيِّ كَالْبَرَاكِينَ وَالصَّوَاعِقِ الَّتِي تَهْبِطُ بِهَا الصُّخُورُ وَتَنْدَكُّ الْجِبَالُ، وَقَدْ جُعِلَ هَذَا شَبَهًا لِلْآيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي أَظْهَرَهَا عَلَى يَدِ عَبْدِهِ وَنَبِيِّهِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَهِيَ حَوَادِثُ عَظِيمَةٌ فِي الْكَوْنِ تَفْزَعُ بِهَا نُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى اللهِ، وَتَخْشَعُ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ لِعَظَمَتِهَا وَخَفَاءِ سِرِّ إِيجَادِهَا،

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 292
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست