responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 217
كَانَ لَهُ بِهَا مِنَ الِاخْتِرَاعَاتِ الْعَجِيبَةِ مَا كَانَ، وَسَيَكُونُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ التَّقْدِيرُ وَالْحُسْبَانُ.
فَالْإِنْسَانُ بِهَذِهِ الْقُوَّةِ غَيْرُ مَحْدُودِ الِاسْتِعْدَادِ وَلَا مَحْدُودِ الرَّغَائِبِ وَلَا مَحْدُودِ الْعِلْمِ وَلَا مَحْدُودِ الْعَمَلِ، فَهُوَ عَلَى ضَعْفِ أَفْرَادِهِ يَتَصَرَّفُ بِمَجْمُوعِهِ فِي الْكَوْنِ تَصَرُّفًا لَا حَدَّ لَهُ بِإِذْنِ اللهِ وَتَصْرِيفِهِ، وَكَمَا أَعْطَاهُ اللهُ - تَعَالَى - هَذِهِ الْمَوَاهِبَ وَالْأَحْكَامَ الطَّبِيعِيَّةَ لِيُظْهِرَ بِهَا أَسْرَارَ خَلِيقَتِهِ، وَمَلَّكَهُ الْأَرْضَ وَسَخَّرَ لَهُ عَوَالِمَهَا، أَعْطَاهُ أَحْكَامًا وَشَرَائِعَ، حَدَّ فِيهَا لِأَعْمَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ حَدًّا يَحُولُ دُونَ بَغْيِ أَفْرَادِهِ وَطَوَائِفِهِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَهِيَ تُسَاعِدُهُ عَلَى بُلُوغِ كَمَالِهِ؛ لِأَنَّهَا مُرْشِدٌ وَمُرَبٍّ لِلْعَقْلِ الَّذِي كَانَ لَهُ تِلْكَ الْمَزَايَا؛ فَلِهَذَا كُلِّهِ جَعَلَهُ خَلِيفَتَهُ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ أَخْلَقُ الْمَخْلُوقَاتِ بِهَذِهِ الْخِلَافَةِ.
ظَهَرَتْ آثَارُ الْإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الْخِلَافَةِ عَلَى الْأَرْضِ، وَنَحْنُ نُشَاهِدُ عَجَائِبَ صُنْعِهِ فِي الْمَعْدِنِ وَالنَّبَاتِ، وَفِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَالْهَوَاءِ، فَهُوَ يَتَفَنَّنُ وَيَبْتَدِعُ وَيَكْتَشِفُ وَيَخْتَرِعُ وَيَجِدُّ وَيَعْمَلُ، حَتَّى غَيَّرَ شَكْلَ الْأَرْضِ فَجَعَلَ الْحَزَنَ سَهْلًا، وَالْمَاحِلَ خِصْبًا، وَالْخَرَابَ عُمْرَانًا، وَالْبَرَارِيَ بِحَارًا أَوْ خِلْجَانًا، وَوَلَّدَ بِالتَّلْقِيحِ أَزْوَاجًا مِنَ النَّبَاتِ لَمْ تَكُنْ كَاللَّيْمُونِ الْمُسَمَّى " يُوسُفَ أَفَنْدِي " فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - خَلَقَهُ بِيَدِ الْإِنْسَانِ وَأَنْشَأَهُ بِكَسْبِهِ، وَقَدْ تَصَرَّفَ فِي أَبْنَاءِ جِنْسِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ كَمَا يَشَاءُ بِضُرُوبِ التَّرْبِيَةِ وَالتَّغْذِيَةِ وَالتَّوْلِيدِ، حَتَّى ظَهَرَ التَّغَيُّرُ فِي خِلْقَتِهَا وَخَلَائِقِهَا وَأَصْنَافِهَا فَصَارَ مِنْهَا الْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ، وَمِنْهَا الْأَهْلِيُّ وَالْوَحْشِيُّ، وَهُوَ يَنْتَفِعُ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا وَيُسَخِّرُهُ لِخِدْمَتِهِ كَمَا سَخَّرَ الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةَ وَسَائِرَ الْمَخْلُوقَاتِ، أَلَيْسَ مِنْ حِكْمَةِ اللهِ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ثُمَّ هَدَى، أَنَّ جَعْلَ الْإِنْسَانَ بِهَذِهِ الْمَوَاهِبِ خَلِيفَتَهُ فِي الْأَرْضِ، يُقِيمُ سُنَنَهُ، وَيُظْهِرُ عَجَائِبَ صُنْعِهِ، وَأَسْرَارَ خَلِيقَتِهِ، وَبَدَائِعَ حِكَمِهِ، وَمَنَافِعَ أَحْكَامِهِ، وَهَلْ وُجِدَتْ آيَةٌ عَلَى كَمَالِ اللهِ - تَعَالَى - وَسِعَةِ عِلْمِهِ أَظْهَرُ مِنْ هَذَا الْإِنْسَانِ الَّذِي خَلَقَهُ اللهُ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ؟ وَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ خَلِيفَةً بِهَذَا الْمَعْنَى فَكَيْفَ تَعْجَبُ الْمَلَائِكَةُ مِنْهُ؟
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) بَادَرُوا إِلَى السُّؤَالِ وَاسْتِفْهَامِ الِاسْتِغْرَابِ وَ (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) فَيَغْفُلُ بِذَلِكَ عَنْ تَسْبِيحِكَ وَتَقْدِيسِكَ (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) بِلَا غَفْلَةٍ وَلَا فُتُورٍ؟ لَا شَكَّ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ نَشَأَ مِنْ فَهْمِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنَ الْخَلِيفَةِ وَمَا يَقْتَضِيهِ مِنَ الْعِلْمِ غَيْرِ الْمَحْدُودِ وَالْإِرَادَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَكَوْنُ هَذَا الْعِلْمِ الْمُصْرِّفِ لِلْإِرَادَةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالتَّدْرِيجِ، وَكَوْنُ عَدَمِ الْإِحَاطَةِ مَدْعَاةٌ لِلْفَسَادِ وَالتَّنَازُعِ الْمُفْضِي إِلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ.
نَعَمْ إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ الْوَاسِعَ لَا يُعْطَاهُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ وَلَا مَجْمُوعُ النَّوْعِ دُفْعَةً وَاحِدَةً

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 217
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست