responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 187
انْحِلَالُ هَذِهِ الصُّوَرِ الْجَسَدِيَّةِ، وَتَفَرُّقُ هَذِهِ الْمُرَكَّبَاتِ الْمَادِّيَّةِ، فَاللهُ هُوَ الْعَلِيمُ بِمَا يَصْلُحُ بِهِ حَالُهُ فِي تِلْكَ الْحَيَاةِ، وَتَأْبَى حِكْمَتُهُ وَرَحْمَتُهُ وَجُودُهُ وَإِتْقَانُهُ لِكُلِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَتَنَزُّهُهُ عَنِ الْبَاطِلِ وَالْعَبَثِ، أَنْ يَحْرِمَهُ هَذِهِ الْهِدَايَةَ.
وَبَيِّنَ فِي الثَّانِي أَنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ الْإِنْسَانِيَّةَ لَا يَسْتَقِيمُ فِيهَا التَّعَاوُنُ بَيْنَ الْأَفْرَادِ وَلَا بَيْنَ الْجَمَاعَاتِ إِلَّا بِالْأَخْذِ بِتَعَالِيمَ اعْتِقَادِيَّةٍ وَأَدَبِيَّةٍ وَعَمَلِيَّةٍ لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا الْأَهْوَاءُ وَالشَّهَوَاتُ؛ لِأَنَّ الْوَازِعَ فِيهَا نَفْسِيٌّ وِجْدَانِيٌّ لِصُدُورِهَا عَنِ الرَّبِّ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ، بِوَحْيٍ أَوْحَاهُ إِلَى مَنِ اخْتَصَّهُ بِهَذَا الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، وَلَوْلَا أَنْ طَالَ هَذَا الِاسْتِطْرَادُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ لَأَوْرَدْتُ هَذَا الْفَصْلِ بِرُمَّتِهِ هُنَا، فَهُوَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، وَالْحِكْمَةُ وَفَصْلُ الْخِطَابِ.
إِلَّا أَنَّنِي أَقُولُ: إِنَّ أَعْلَمَ الْحُكَمَاءِ الْغَرْبِيِّينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ قَدْ بَيَّنُوا فِي مَبَاحِثِهِمْ فِي طَبَائِعِ الْبَشَرِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تُرِكَ إِلَى مَدَارِكِهِ الْحِسِّيَّةِ، وَنَظَرِيَّاتِهِ الْعَقْلِيَّةِ، وَتَسَلَّلَ مِنْ وِجْدَانِ الدِّينِ وَالْإِلْهَامِ الْإِلَهِيِّ بِالْحَيَاةِ الْأُخْرَى، يَكُونُ أَشْقَى مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ الْأَعْجَمِ، وَيَكُونُ جُلُّ شَقَائِهِ مِنْ نَظَرِيَّاتِهِ الْعَقْلِيَّةِ، فَهُوَ إِذَا فَكَّرَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الْقَصِيرَةِ الَّتِي تُسَاوِرُهَا الْآلَامُ الشَّخْصِيَّةُ، مِنْ جَسَدِيَّةٍ وَنَفْسِيَّةٍ، وَالْآلَامِ الْمَنْزِلِيَّةِ (الْعَائِلِيَّةِ) وَالْقَوْمِيَّةِ وَالْوَطَنِيَّةِ وَالدَّوْلِيَّةِ، يَرَاهَا عَبَثًا ثَقِيلًا، وَيَرَى مِنَ السُّخْفِ أَوِ الْجُنُونِ أَنْ يَحْمِلَ شَيْئًا مِنْهَا مُخْتَارًا لِأَجْلِ زَوْجَةٍ أَوْ وَلَدٍ أَوْ وَطَنٍ أَوْ أُمَّةٍ، وَيَرَى أَنَّ الطَّرِيقَةَ الْمُثْلَى فِي الْحَيَاةِ أَلَّا يَتَعَرَّضَ لِأَلَمٍ مِنْ هَذِهِ الْآلَامِ، فَلَا يَتَزَوَّجَ
وَلَا يَعْمَلَ أَدْنَى عَمَلٍ وَلَا يَتَكَلَّفَ أَدْنَى تَعَبٍ لِأَجْلِ غَيْرِهِ، وَأَنْ يَطْلُبَ لَذَّاتِهِ الْجَسَدِيَّةِ مِنْ أَقْرَبِ الطَّرْقِ إِلَيْهَا، وَيَنْتَظَرَ الْمَوْتَ لِلِاسْتِرَاحَةِ مِنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ، فَإِنْ أَبْطَأَ عَلَيْهِ وَنَزَلَتْ بِهِ آلَامٌ يَشُقُّ عَلَيْهِ احْتِمَالُهَا مِنْ مَرَضٍ أَوْ فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ ذُلٍّ مُخْزٍ فَلْيَبْخَعْ نَفْسَهُ وَيَتَعَجَّلِ الْمَوْتَ انْتِحَارًا.
كُلُّ فَضَائِلِ الْإِنْسَانِ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ وَالْأُمَّةِ وَالْوَطَنِ، وَإِسْدَاءِ الْمَعْرُوفِ وَسَائِرِ أَعْمَالِ الْبِرِّ لَا يَبْعَثُ النَّفْسَ عَلَيْهَا إِلَّا الْإِيمَانُ بِاللهِ وَبِالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ فِي حَيَاةٍ خَيْرٍ مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، كَمَا قَرَّرَهُ الْبِرِنْسُ بِسْمَارْكُ عَظِيمُ أُورُبَّا فِي عَصْرِهِ فِي بَيَانِ ((الْبَاعِثُ لِلْجُنْدِيِّ عَلَى بَذْلِ نَفْسِهِ فِي الْحَرْبِ)) مِنْ أَنَّهُ وَجَدَ أَنَّهُ الدِّينُ، وَفِي قَوْلِهِ عَنْ نَفْسِهِ إِنَّهُ لَوْلَا الْإِيمَانُ لَمَا خَدَمَ الْأُمَّةَ الْأَلْمَانِيَّةَ فِي ظِلِّ عَاهِلِهَا، وَهُوَ يَكْرَهُ الْمُلُوكَ لِأَنَّهُ جُمْهُورِيٌّ بِالطَّبْعِ. وَلَئِنِ انْتَصَرَتِ الْأَفْكَارُ الْمَادِّيَّةُ عَلَى الْهِدَايَةِ الدِّينِيَّةِ انْتِصَارًا تَامًّا كَامِلًا لِيَتَحَوَّلَنَّ جَمِيعُ مَا اهْتَدَى إِلَيْهِ الْبَشَرُ مِنْ أَسْرَارِ الْكَوْنِ وَالْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ إِلَى ذَرَائِعِ الْفَتْكِ وَالتَّدْمِيرِ، وَبِئْسَ الْمَثْوَى وَالْمَصِيرِ. وَهُوَ مَا جَزَمَ هِرْبِرْتُ سِبِنْسَرُ شَيْخُ فَلَاسِفَةِ أُورُبَّا الِاجْتِمَاعِيِّينَ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ عَاقِبَةَ انْتِشَارِ الْأَفْكَارِ الْمَادِّيَّةِ فِي أُورُبَّا: صَرَّحَ بِهِ لِشَيْخِنَا عِنْدَ الْتِقَائِهِ بِهِ فِي انْجِلْتِرَا.
فَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الدِّينَ هُوَ الْهِدَايَةُ الْعُلْيَا لِلْإِنْسَانِ الَّتِي أُفِيضَتْ عَلَى بَعْضِ خَوَاصِّهِ

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 187
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست