responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 169
طِبَاعَ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ وَحَوَّلَهَا عَنْ عَقَائِدِهَا وَتَقَالِيدِهَا، وَصَرَفَهَا عَنْ عَادَاتِهَا وَعَدَاوَاتِهَا، وَصَدَفَ بِهَا عَنْ أَثَرَتِهَا وَثَارَاتِهَا، وَبَدَّلَهَا بِأُمِّيَّتِهَا حِكْمَةً وَعِلْمًا، وَبِجَاهِلِيَّتِهَا أَدَبًا رَائِعًا وَحِلْمًا، وَأَلَّفَ مِنْ قَبَائِلِهَا الْمُتَفَرِّقَةِ وَاحِدَةً سَادَتِ الْعَالَمَ بِعَقَائِدِهَا وَفَضَائِلِهَا وَعَدْلِهَا وَحَضَارَتِهَا، وَعُلُومِهَا وَفُنُونِهَا.
اهْتَدَى إِلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ إِعْجَازِ بَعْضِ حُكَمَاءِ أُورُبَّةَ مُسْتَنْبِطًا لَهُ مِنْ هَذِهِ الْغَايَةِ التَّارِيخِيَّةِ، وَبَيَّنَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنْ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُؤْتَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى مِنَ الْآيَاتِ الْمُعْجِزَةِ، فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: إِنْ مُحَمَّدًا كَانَ يَتْلُو الْقُرْآنَ مُوَلَّهًا مُدَلَّهًا، خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا، فَيَفْعَلُ فِي جَذْبِ الْقُلُوبِ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ فَوْقَ مَا كَانَتْ تَفْعَلُ جَمِيعُ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِهِ.
وَقَدْ رَأَيْنَا وَرُوِّيْنَا عَنْ بَعْضِ أُدَبَاءِ هَذِهِ اللُّغَةِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ يَذْهَبُونَ فِي بَعْضِ لَيَالِي رَمَضَانَ إِلَى بَعْضِ بُيُوتِ مَعَارِفِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِيَسْمَعُوا الْقُرْآنَ وَيُمَتِّعُوا ذَوْقَهُمُ الْعَرَبِيَّ وَشُعُورَهُمُ الرُّوحَانِيَّ الْأَدَبِيَّ بِسَمَاعِ آيَاتِهِ الْمُعْجِزَةِ، وَقَدْ شَهِدَ لَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِنْصَافِ مِنْهُمْ بِهَذَا الْإِعْجَازِ فِي النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ، وَالْبَلَاغَةُ يَغُوصُ تَأْثِيرُهَا فِي أَعْمَاقِ الْقُلُوبِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَفْقَهُوا دَلَالَةَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَسَنُبَيِّنُهُ فِي آخَرِ هَذَا الْبَحْثِ.
وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أُورِدَ الشَّوَاهِدَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، لَخَرَجْتُ عَنِ الِاخْتِصَارِ الَّذِي الْتَزَمْتُهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ، وَإِنَّكَ لِتَجِدُ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى عَجَائِبِهَا فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ مَا لَا تَجِدُهُ فِي غَيْرِهِ، حَتَّى الدِّقَّةُ فِي مَعَانِي مُفْرَدَاتِهِ، وَتَحْدِيدُ الْحَقَائِقِ فِي جُمَلِهِ، وَمَزْجُ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ فِي أُسْلُوبِهِ، وَلُطْفُ التَّنَاسُبِ بَيْنَ آيَاتِهِ وَبَيْنَ سُوَرِهِ، وَمِنْ أَعْجَبِهَا ضُرُوبُ إِيجَازِهِ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا، وَكَثْرَةُ تَكْرَارِهِ لِلْمَعْنَى الْوَاحِدِ بِعِبَارَاتٍ لَا يَمَلَّهَا قَارِئٌ وَلَا سَامِعٌ، وَقَدْ نَبَّهْنَا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ عَلَى الْكَثِيرِ مِنْهَا. وَمِنَ الْعَجَبِ غَفْلَةُ أَكْثَرِ طُلَّابِ الْبَلَاغَةِ عَنْهَا.
إِعْجَازُ الْقُرْآنِ بِمَا فِيهِ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ:
(الْوَجْهُ الثَّالِثُ) : اشْتِمَالُهُ عَلَى الْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ مِنْ مَاضٍ، كَقَصَصِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ الْكَلَامِ فِيهِ، وَمِنْ حَاضِرٍ فِي عَصْرِ تَنْزِيلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) (30: 1 - 5) الْآيَةَ، وَفِيهَا خَبَرَانِ عَنِ الْغَيْبِ ظَهَرَ صِدْقُهُمَا بَعْدَ بِضْعِ سِنِينَ مِنْ نُزُولِ الْآيَةِ، وَكَانَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - رَاهَنَ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى صِدْقِ الْخَبَرِ فَرَبِحَ الرِّهَانَ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ) (48: 15)

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 169
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست