responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 164
وَبَلَغَتْ مَبْلَغَهَا وَلَمْ يَنْبَرِ أَحَدٌ لِلْمُعَارَضَةِ كَمَا قُلْنَا، أَلَا يَدُلَّ هَذَا عَلَى نِهَايَةِ الْعَجْزِ وَعُمُومِهِ، وَإِحْسَاسِ كُلِّ بَلِيغٍ بِالضَّعِيفِ فِي نَفْسِهِ عَنِ الِانْبِرَاءِ لِمُبَارَاتِهِ، وَالتَّسَامِي لِمُحَاكَاتِهِ، وَعَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَهُ فَوْقَ الْقَدْرِ، خَارِقًا لِمَا يَعْتَادُ مَنْ كَسْبِ الْبَشَرِ؟ بَلَى، وَإِنَّ لِهَذَا الْإِعْجَازِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَوْنُهُ مُعْجِزًا بِذَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَرْتَبَةٍ لَا يُمْكِنُ لِبَشَرٍ أَنْ يَرْتَقِيَ إِلَيْهَا، وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ جَاءَ عَلَى لِسَانِ أُمِّيٍّ لَبِثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ يُوصَفْ بِالْبَلَاغَةِ، وَلَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْعِلْمِ، وَقَدْ ذَكَرُوا وُجُوهًا أُخْرَى لِلْإِعْجَازِ يَنْطَوِي عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، مِنْهَا قَوْلُهُ هُنَا: (وَلَنْ تَفْعَلُوا) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُخْبِرَ هُوَ اللهُ تَعَالَى، عَالَمُ الْغَيْبِ وَمَا يَكُونُ فِي
الْمُسْتَقْبَلِ، وَمِنْ فَائِدَةِ هَذَا الْقَوْلِ فِي عَهْدِ نُزُولِهِ وَقَبْلَ ظُهُورِ تَأْوِيلِهِ: أَنَّ قَرْعَهُ لِسَمْعِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ يَقْتَضِي أَشَدَّ التَّحْرِيضِ عَلَى الْمُعَارَضَةِ الَّتِي يَظْهَرُ بِهَا الْعَجْزُ، وَيَقُومُ الْبُرْهَانُ بِالْإِعْجَازِ الْمُقْتَضِي لِلْإِيمَانِ، لَوْلَا مُكَابَرَةُ الْمُسْتَكْبِرِينَ لِوِجْدَانِهِمْ، وَجُحُودُ أَلْسِنَتِهِمْ لَمَا اسْتَيْقَنَتْهُ قُلُوبُهُمْ (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (27: 14) وَأَمَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ وَيَعْتَقِدُ الْخَوَارِقَ فَمَا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى عَجْزِهِ وَيُبَادِرَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَبِرِسَالَةِ مَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ، لِلْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِعَاقِلٍ أَنْ يَجْزِمَ بِذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى الْغَيْبِ، فَهُوَ خَبَرٌ عَنِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -.
قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِلْفَرِيقَيْنِ بَعْدَ تَسْجِيلِ الْعَجْزِ عَلَيْهِمْ: (فَاتَّقُوا النَّارَ) وَهِيَ مَوْطِنُ عَذَابِ الْآخِرَةِ، نُؤْمِنُ بِهَا، وَلِأَنَّهَا مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ وَلَا نَبْحَثُ عَنْ حَقِيقَتِهَا، وَلَا نَقُولُ إِنَّهَا شَبِيهَةٌ بِنَارِ الدُّنْيَا، وَلَا إِنَّهَا غَيْرُ شَبِيهَةٍ بِهَا، وَإِنَّمَا نُثْبِتُ لَهَا جَمِيعَ الْأَوْصَافِ الَّتِي وَصَفَهَا اللهُ تَعَالَى بِهَا كَقَوْلِهِ: (الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) الْمُرَادُ بِالْحِجَارَةِ الْأَصْنَامُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) وَلَا يَسْبِقَنَّ إِلَى الْفَهْمِ أَنَّهَا لَا تُوجَدُ إِلَّا بِوُجُودِ النَّاسِ وَالْحِجَارَةِ إِذْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونُوا وَقُودَهَا بَعْدَ وُجُودِهَا وَالْوَقُودُ بِالْفَتْحِ مَا تُوقَدُ بِهِ النَّارُ وَبِالضَّمِّ مَصْدَرٌ، وَقَدْ سُمِعَ الْمَصْدَرُ بِالْفَتْحِ أَيْضًا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي تَفْسِيرِ " وَقُودِهَا " إِنَّ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ وَعِبَادَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَانْحِرَافِهِمْ عَنْ صِرَاطِ الْحَقِّ الْمُسْتَقِيمِ - وَالْحِجَارَةَ بِعِبَادَةِ النَّاسِ لَهَا - سَبَبَانِ فِي إِيجَادِ النَّارِ وَإِعْدَادِهَا لَهُمْ، فَبِذَلِكَ كَانُوا كَالْوَقُودِ الَّذِي تُضْرَمُ بِهِ النَّارُ، وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمُ السَّبَبِ وَهُوَ النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَى الْمُسَبَّبِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ يَظْهَرُ الْحَصْرُ فِي جُمْلَةِ (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) فَإِنَّهَا اسْمِيَّةٌ مُعَرَّفَةُ الطَّرَفَيْنِ، وَخَصَّ الْحِجَارَةَ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهَا أَظْهَرُ الْمَعْبُودَاتِ عِنْدَ الْعَرَبِ.
وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ: الَّذِينَ لَا يُجِيبُونَ دَعْوَةَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ -، وَالَّذِينَ يَنْحَرِفُونَ عَنْ أُصُولِهَا بَعْدَ الْأَخْذِ بِهَا لِبِدَعٍ يَبْتَدِعُونَهَا، وَتَقَالِيدَ يُحْدِثُونَهَا،
وَتَأْوِيلَاتٍ يُلَفِّقُونَهَا، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ أُعِدَّتْ وَهُيِّئَتِ النَّارُ لَهُمْ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ الْخُلُودَ فِيهَا، وَمَنْ وَرَدَهَا وُرُودًا وَانْتَهَى إِلَى مَوْطِنٍ آخَرَ فَذَلِكَ الْمَوْطِنُ هُوَ الَّذِي أُعِدَّ لَهُ، وَلَيْسَ بَعْدَ الدُّنْيَا مَوْطِنٌ إِلَّا الْجَنَّةَ، جَعَلَنَا اللهُ مِنْ أَهْلِهَا بِالتَّوْفِيقِ لِلتَّقْوَى، أَوِ النَّارَ، نَعُوذُ بِاللهِ مِنْهَا وَمِمَّا يُقَرِّبُ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ.

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 164
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست