responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 155
وَالْإِخْلَاصَ فِي الْعِبَادَةِ بِاسْتِحْضَارِ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ، فَإِنَّهُ هُوَ رَبُّكُمُ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ فِيمَا لَا تَعْلَمُونَ (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (16: 78) وَغَذَّاكُمْ بِنِعَمِهِ، وَنَمَّاكُمْ بِكَرَمِهِ، كَمَا فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ بِسَلَفِكُمُ الصَّالِحِ فَشَكَرُوهُ وَعَبَدُوهُ وَحْدَهُ مُقِرِّينَ بِهَذِهِ التَّرْبِيَةِ، وَمُعَظِّمِينَ لِهَذِهِ الْمِنَّةِ، فَلْيَدَعْ ذَلِكَ الصِّنْفُ احْتِقَارَ النِّعَمِ الَّتِي هُوَ فِيهَا وَالِاقْتِصَارُ عَلَى تَعْظِيمِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَى السَّلَفِ فَقَطْ. فَإِنَّ هَذَا الرَّبَّ الْعَظِيمَ (الَّذِي خَلَقَكُمْ) وَ (خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) قَدْ رَبَّاكُمْ كَمَا رَبَّى سَلَفَكُمْ، وَوَهَبَكُمْ مِنَ الْهِدَايَاتِ مِثْلَمَا وَهَبَهُمْ، فَمَنْ شَكَرَ مِنْهُمْ وَمِنْكُمْ زَادَهُ نِعَمًا، وَمَنْ كَفَرَ بِهَذِهِ النِّعَمِ جَعَلَهَا عَلَيْهِ نِقَمًا، لِيَكُونَ عِبْرَةً وَمَثَلًا لِلْآخَرِينَ، وَذَلِكَ مِنْ رَحْمَتِهِ بِالْعَالَمِينَ، وَقَدْ أَقْسَمَ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ فَقَالَ: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (14: 7) وَفِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ أَنَابَ.
هَكَذَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ أَجْمَعِينَ بِأَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَأَرْشَدَهُمْ بِإِعْلَامِهِ إِيَّاهُمْ أَنَّهُ سَاوَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ قَبْلَهُمْ فِي الْمَوَاهِبِ الْخَلْقِيَّةِ إِلَى الِاسْتِقْلَالِ بِالْعَمَلِ وَقَدَرَ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ قَدْرَهَا، لِيَعْلَمُوا أَنَّ كُلَّ النِّعَمِ الَّتِي تُكْتَسَبُ بِالشُّكْرِ - وَهِيَ مَا عَدَا النُّبُوَّةَ - مَقْدُورَةٌ لَهُمْ، كَمَا كَانَتْ مَقْدُورَةً لِمَنْ قَبْلَهُمْ، وَأَنَّهُمْ إِذَا زَادُوا عَلَى سَلَفِهِمْ شُكْرًا يُزَادُونَ نِعَمًا، وَمَا الشُّكْرُ إِلَّا اسْتِعْمَالُ الْمَوَاهِبِ وَالنِّعَمِ فِيمَا وُهِبَتْ لِأَجْلِهِ، فَالَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّنَا لَا نَقْدِرُ عَلَى فَهْمِ الدِّينِ بِأَنْفُسِنَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِأَنَّ عُقُولَنَا وَأَفْهَامَنَا ضَعِيفَةٌ، وَإِنَّمَا عَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ بِقَوْلِ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ آبَائِنَا؛ لِأَنَّ عُقُولَهُمْ كَانَتْ أَقْوَى، وَكَانُوا عَلَى فَهْمِ الدِّينِ أَقْدَرَ، بَلْ لَا يُمْكِنُ
أَنْ يَفْهَمُهُ غَيْرُهُمْ، أُولَئِكَ كَافِرُونَ بِنِعْمَةِ الْعَقْلِ، وَغَيْرُ مُهْتَدِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ النَّاطِقَةِ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْمَوَاهِبِ وَسِعَةِ الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ، وَكَذَلِكَ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ وُسَطَاءَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى لِأَجْلِ التَّقْرِيبِ إِلَيْهِ زُلْفَى بِغَيْرِ مَا شَرَعَهُ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ، وَمَا جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَهُمُ الْوَسَائِلُ فِي الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ، أَوْ لِأَجْلِ الشَّفَاعَةِ لَهُمْ عِنْدَهُ لِيَنَالُوا جَزَاءَ مَا شَرَعَهُ مِنَ الدِّينِ، مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْعَمَلِ بِهِ وَاتِّبَاعِ الْمُرْسَلِينَ - قَدِ احْتَقَرُوا نِعَمَ اللهِ تَعَالَى وَلَمْ يَهْتَدُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُمْ قَدْ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا يَبْغُونَ أَنْ يَنَالُوا بِأَشْخَاصِهِمْ مَا حَكَمَ اللهُ بِأَنْ يَطْلُبَهُ النَّاسُ بِإِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، فَجَعَلُوا هَؤُلَاءِ الْأَنْدَادَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ يُغْنُونَهُمْ عَنْ شَرِيعَتِهِ، شَعَرُوا بِذَلِكَ أَمْ لَمْ يَشْعُرُوا.
يَقُولُ تَعَالَى لِجَمِيعِ عِبَادِهِ مَا مَعْنَاهُ: اعْبُدُونِي مُلَاحِظِينَ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالْمُسَاوَاةِ فِي الْمَوَاهِبِ الْخَلْقِيَّةِ الَّتِي تُؤَهِّلُكُمْ لِلسَّعَادَةِ الْحَقِيقِيَّةِ (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فَإِنَّ الْعِبَادَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هِيَ الَّتِي تُعِدُّكُمْ لِلتَّقْوَى، وَيُرْجَى بِهَا بُلُوغُ الْكَمَالِ الْقُصْوَى.
قَالَ الْأُسْتَاذُ: الشَّائِعُ أَنَّ " لَعَلَّ " لِلتَّرَجِّي فِي ذَاتِهَا، وَإِذَا وَقَعَتْ فِي كَلَامِ اللهِ تَعَالَى يَكُونُ مَعْنَاهَا التَّحْقِيقُ، وَغَرَضُ الْقَائِلِينَ بِهَذَا تَنْزِيهُ اللهِ سُبْحَانَهُ عَنِ التَّرَجِّي بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 155
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست