responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 139
قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (6: 110) وَالْمَعْنَى: أَنَّ سُنَّةَ اللهِ تَعَالَى فِي الَّذِينَ وَصَلُوا إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ مِنْ فَسَادِ الْفِطْرَةِ هُوَ مَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ فِيهِمْ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى) الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ بِأُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ بَيَّنَتْ حَالَهُمُ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: (آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) إِلَخْ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ طُغْيَانَهُمْ وَعَمَهَهُمْ مِنْ كَسْبِهِمْ، وَلَمْ يُجْبَرُوا عَلَيْهِ بِخَلْقِ رَبِّهِمْ، قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَقَدْ فَسَّرُوا (اشْتَرَوْا) بِاسْتَبْدَلُوا وَهُوَ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فَصْلًا فِي الْمَعْنَى، وَكُلَّنَا نَعْتَقِدُ - وَالْحَقُّ مَا نَعْتَقِدُ - أَنَّ الْقُرْآنَ فِي أَعْلَى دَرَجِ الْبَلَاغَةِ لَا يَخْتَارُ لَفْظًا عَلَى لَفْظٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ، وَلَا يُرَجِّحَ أُسْلُوبًا عَلَى أُسْلُوبٍ يُمْكِنُ تَأْدِيَةُ الْمُرَادِ بِهِ إِلَّا لِحِكْمَةٍ فِي ذَلِكَ وَخُصُوصِيَّةٍ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِ مَا اخْتَارَهُ وَرَجَّحَهُ، وَوَجْهُ اخْتِيَارِهِ ((اشْتَرَوْا)) عَلَى اسْتَبْدَلُوا أَنَّ الْأَوَّلَ أَخَصُّ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاسْتِبْدَالَ لَا يَكُونُ شِرَاءً إِلَّا إِذَا كَانَ فِيهِ فَائِدَةٌ يَقْصِدُهَا الْمُسْتَبْدَلُ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَتِ الْفَائِدَةُ حَقِيقِيَّةً أَوْ وَهْمِيَّةً.
ثَانِيهِمَا: أَنَّ الشِّرَاءَ يَكُونُ بَيْنَ مُتَبَايِعِينَ بِخِلَافِ الِاسْتِبْدَالِ، فَإِذَا أَخَذْتَ ثَوْبًا مِنْ ثِيَابِكَ بَدَلَ آخَرَ، يُقَالُ: إِنَّكَ اسْتَبْدَلْتَ ثَوْبًا بِثَوْبٍ، فَالْمَعْنَى الَّذِي تُؤَدِّيهِ الْآيَةُ: أَنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ اخْتَارُوا الضَّلَالَةَ عَلَى الْهُدَى لِفَائِدَةٍ لَهُمْ بِإِزَائِهَا يَعْتَقِدُونَ الْحُصُولَ عَلَيْهَا مِنَ النَّاسِ، فَهُوَ مُعَاوَضَةٌ بَيْنَ طَرَفَيْنِ يُقْصَدُ بِهَا الرِّبْحُ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الِاشْتِرَاءِ وَالشِّرَاءِ، وَمَثَلُهُمَا الْبَيْعُ وَالِابْتِيَاعُ، وَلَا يُؤَدِّيهِ مُطْلَقُ الِاسْتِبْدَالِ.
ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ كُتُبٌ سَمَاوِيَّةٌ فِيهَا مَوَاعِظُ وَأَحْكَامٌ، وَفِيهَا بِشَارَةٌ بِأَنَّ اللهَ
يُرْسِلُ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَ التَّقَالِيدِ، وَأَغْلَالَ التَّقَيُّدِ بِإِرَادَةِ الْعَبِيدِ، وَيَرْعَى جَمِيعَ الْأُمَمِ بِقَضِيبٍ مِنْ حَدِيدٍ، فَيُرْجِعُ لِلْعُقُولِ نِعْمَةُ الِاسْتِقْلَالِ، وَيَجْعَلُ إِرَادَةَ الْأَفْرَادِ هِيَ الْمُصَرِّفَةَ لِلْأَعْمَالِ فَكَانَ عِنْدَهُمْ بِذَلِكَ حَظٌّ مِنْ هِدَايَةِ الْعَقْلِ وَالْمَشَاعِرِ وَهِدَايَةِ الدِّينِ وَالْكِتَابِ، وَلَكِنْ نَجَمَتْ فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ وَالْبِدَعُ، وَتَحَكَّمَتْ فِيهِمُ الْعَادَاتُ وَالتَّقَالِيدُ، وَعَلَا سُلْطَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى سُلْطَانِ الدِّينِ، فَضَلَّ الرُّؤَسَاءُ فِي فَهْمِهِ بِتَحْكِيمِ تَقَالِيدِهِمْ فِي أَحْكَامِهِ وَعَقَائِدِهِ بِضُرُوبٍ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ، وَأَهْمَلَ الْمَرْءُوسُونَ الْعَقْلَ وَالنَّظَرَ فِي الْكِتَابِ بِحَظْرِ الرُّؤَسَاءِ وَأَثَرَتِهِمْ، فَكَانَ الْجَمِيعُ عَلَى ضَلَالَةٍ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ وَفِي فَهْمِ الْكِتَابِ بَعْدَ أَنْ كَانَا هِدَايَتَيْنِ مَمْنُوحَتَيْنِ لَهُمْ لِإِسْعَادِهِمْ، وَكَانَتِ الْمُعَاوَضَةُ عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ: لِلرُّؤَسَاءِ الْمَالُ وَالْجَاهُ وَالتَّعْظِيمُ وَالتَّكْرِيمُ بِاسْمِ الدِّينِ، وَلِلْمَرْءُوسِينَ الِاسْتِعَانَةُ بِجَاهِ رُؤَسَاءِ الدِّينِ عَلَى مَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ، وَرَفْعِ أَثْقَالِ التَّكَالِيفِ بِفَتَاوَى التَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ، هَكَذَا اسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى - وَهُوَ الْعَقْلُ وَالدِّينُ - رَغْبَةً فِي الْحُطَامِ،

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 139
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست