responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير ابن كثير - ت سلامة المؤلف : ابن كثير    الجزء : 2  صفحة : 479
[الْجَاثِيَةِ: 13] أَيْ: مِنْ خَلْقه وَمِنْ عِنْدِهِ، وَلَيْسَتْ "مِنْ" لِلتَّبْعِيضِ، كَمَا تَقُولُهُ النَّصَارَى -عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ-بَلْ هِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى.
وَقَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {وَرُوحٌ مِنْهُ} أَيْ: وَرَسُولٌ مِنْهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ. وَمَحَبَّةٌ مِنْهُ. وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ أنَّه مَخْلُوقٌ مِنْ رُوحٍ مَخْلُوقَةٍ، وَأُضِيفَتِ الرُّوحُ إِلَى اللَّهِ عَلَى وَجْهِ التَّشْرِيفِ، كَمَا أُضِيفَتِ النَّاقَةُ وَالْبَيْتُ إِلَى اللَّهِ، فِي قَوْلِهِ: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ} [هُودٍ: 64] . وَفِي قَوْلِهِ: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الْحَجِّ: 26] ، وَكَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "فَأَدْخُلُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ" أَضَافَهَا إِلَيْهِ إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ لَهَا، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ قَبِيلٍ وَاحِدٍ ونمَط وَاحِدٍ.
وَقَوْلُهُ: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} أَيْ: فَصَدِّقُوا بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ أَحَدٌ، لَا صَاحِبَةَ لَهُ وَلَا وَلَدَ، وَاعْلَمُوا وَتَيَقَّنُوا بِأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} أَيْ: لَا تَجْعَلُوا عِيسَى وَأُمَّهُ مَعَ اللَّهِ شَرِيكَيْنِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَهَذِهِ الْآيَةُ وَالَّتِي تَأْتِي فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الْمَائِدَةِ: 73] . وَكَمَا قَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي [وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ] [1] } الْآيَةَ [الْمَائِدَةِ: 116] ، وَقَالَ فِي أَوَّلِهَا: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} الْآيَةَ [الْمَائِدَةِ: 72] ، فَالنَّصَارَى -عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ-مِنْ جَهْلِهِمْ لَيْسَ لَهُمْ ضَابِطٌ، وَلَا لِكُفْرِهِمْ حَدٌّ، بَلْ أَقْوَالُهُمْ وَضَلَالُهُمْ مُنْتَشِرٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُهُ إِلَهًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُهُ شَرِيكًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُهُ وَلَدًا. وَهُمْ طَوَائِفُ كَثِيرَةٌ لَهُمْ آرَاءٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَأَقْوَالٌ غَيْرُ مُؤْتَلِفَةٍ، وَلَقَدْ أَحْسَنَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ حَيْثُ قَالَ: لَوِ اجْتَمَعَ عَشَرَةٌ مِنَ النَّصَارَى لَافْتَرَقُوا عَلَى أَحَدَ عَشَرَ قَوْلًا. وَلَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ عُلَمَائِهِمُ الْمَشَاهِيرِ، وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ بَطْرِيق -بتْرَكُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ-فِي حُدُودِ سَنَةِ أَرْبَعِمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، أَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا الْمَجْمَعَ الْكَبِيرَ الَّذِي عَقَدُوا فِيهِ الْأَمَانَةَ الْكَبِيرَةَ الَّتِي لَهُمْ، وَإِنَّمَا هِيَ الْخِيَانَةُ الْحَقِيرَةُ الصَّغِيرَةُ، وَذَلِكَ فِي أَيَّامِ قُسْطَنْطِينَ بَانِي الْمَدِينَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَأَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ اخْتِلَافًا لَا يَنْضَبِطُ وَلَا يَنْحَصِرُ، فَكَانُوا أَزْيَدَ مِنْ أَلْفَيْنِ أَسْقُفًا، فَكَانُوا أَحْزَابًا كَثِيرَةً، كُلُّ خَمْسِينَ مِنْهُمْ عَلَى مَقَالَةٍ، وَعِشْرُونَ عَلَى مَقَالَةٍ، وَمِائَةٌ عَلَى مَقَالَةٍ، وَسَبْعُونَ عَلَى مَقَالَةٍ، وَأَزْيَدُ مِنْ ذَلِكَ وَأَنْقَصُ. فَلَمَّا رَأَى عِصَابَةً مِنْهُمْ قَدْ زَادُوا عَلَى الثَّلَاثَمِائَةٍ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ نَفَرًا، وَقَدْ تَوَافَقُوا عَلَى مَقَالَةٍ، فَأَخَذَهَا الْمَلِكُ وَنَصَرَهَا وَأَيَّدَهَا -وَكَانَ فَيْلَسُوفًا ذَا هَيْئَةٍ [2] -ومَحَقَ مَا عَدَاهَا مِنَ الْأَقْوَالِ، وَانْتَظَمَ دَسْتُ [3] أُولَئِكَ الثَّلَاثِمِائَةِ وَالثَّمَانِيَةَ عَشَرَ، وَبُنِيَتْ لَهُمُ الْكَنَائِسُ، وَوَضَعُوا لَهُمْ كُتُبًا وَقَوَانِينَ، وَأَحْدَثُوا الْأَمَانَةَ الَّتِي يُلَقِّنُونَهَا الْوِلْدَانَ مِنَ الصِّغَارِ [4] -لِيَعْتَقِدُوهَا-ويُعَمّدونهم عَلَيْهَا، وَأَتْبَاعُ هَؤُلَاءِ هُمِ الْمَلَكِيَّةُ. ثُمَّ إِنَّهُمُ اجْتَمَعُوا مَجْمَعًا ثَانِيًا فَحَدَثَ فِيهِمِ الْيَعْقُوبِيَّةُ، ثُمَّ مَجْمَعًا ثَالِثًا فَحَدَثَ فِيهِمُ النُّسْطُورِيَّةُ. وَكُلُّ هَذِهِ الْفِرَقِ تُثْبِتُ الْأَقَانِيمَ الثَّلَاثَةَ فِي الْمَسِيحِ، وَيَخْتَلِفُونَ فِي كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ وَفِي اللَّاهُوتِ وَالنَّاسُوتِ عَلَى زَعْمِهِمْ! هَلِ اتَّحَدَا، أَوْ مَا اتَّحَدَا، بَلِ امْتَزَجَا أَوْ حَلَّ فِيهِ؟ عَلَى ثَلَاثِ مَقَالَاتٍ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يُكَفِّرُ الْفِرْقَةَ الْأُخْرَى، وَنَحْنُ نُكَفِّرُ الثَّلَاثَةَ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} أَيْ: يَكُنْ خَيْرًا لَكُمْ {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} أَيْ: تَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا}

[1] زياد من ر، أ.
[2] في د، ر، أ: "داهية".
[3] في أ: "دست الملك".
[4] في ر: "الصغر".
اسم الکتاب : تفسير ابن كثير - ت سلامة المؤلف : ابن كثير    الجزء : 2  صفحة : 479
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست