اسم الکتاب : السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير المؤلف : الخطيب الشربيني الجزء : 1 صفحة : 501
عطف على محذوف سدّ مسدّ الجواب كأنه قيل: جواباً لقولهم: {أئن لنا لأجراً} إنّ لكم أجراً وإنكم لمن المقربين أراد إني لا أقتصر لكم على الثواب بل أزيدكم عليه وتلك الزيادة أني أجعلكم من المقرّبين عندي، قال الكلبيّ: تكونون أوّل من يدخل وآخر من يخرج من عندي الآية تدل على أن كل الخلق كانوا عالمين بأن فرعون كان عبداً ذليلاً مهيناً عاجزاً وإلا لما احتاج إلى الاستعانة بالسحرة في دفع موسى وتدل أيضاً على أنّ كل السحرة ما كانوا قادرين على قلب الأعيان وإلا لما احتاجوا إلى طلب الأجر والمال من فرعون لأنهم لو قدروا على قلب الأعيان لقلبوا التراب ذهباً ولنقلوا ملك فرعون إلى أنفسهم ولجعلوا أنفسهم ملوك العالم ورؤساء الدنيا والمقصود من هذه الآيات تنبيه الإنسان لهذه الدقائق وأن لا يغتر بكلمات أهل الأباطيل والأكاذيب.
{قالوا} أي: السحرة {يا موسى إمّا أن تلقى} أي: عصاك {وإمّا أن نكون نحن الملقين} أي: عصينا وحبالنا فراعوا مع موسى عليه السلام حسن الأدب حيث قدموه على أنفسهم في الإلقاء فعوضهم الله تعالى حيث تأدّبوا مع نبيه عليه السلام أن منّ عليهم بالإيمان والهداية ولما راعوا الأدب أوّلاً وأظهروا ما يدل على رغبتهم.
{قال} لهم موسى {اتقوا} أنتم فقدّمهم على نفسه في الإلقاء.
فإن قيل: كيف جاز لنبيّ الله تعالى موسى عليه السلام أن يأمر بالإلقاء وقد علم أنه سحر وفعل السحر حرام أو كفر؟ أجيب: عن ذلك بأجوبة: أحدها: إنّ معناه إن كنتم محقين في فعلكم فألقوا وإلا فلا تلقوا، الثاني: أنّ القوم إنما جاؤوا لإلقاء تلك الحبال والعصيّ وعلم موسى عليه السلام أنه لا بدّ وأن يفعلوا ذلك ووقع التحير في التقديم والتأخير فعند ذلك أذن لهم في التقديم ازدراء لشأنهم وقلة مبالاته بهم وثقته بما وعده الله تعالى من التأييد والتقوية وأنّ المعجزة لا يغلبها سحر أبداً، الثالث: أنه عليه السلام كان يريد إبطال ما أتوا به من السحر وإبطاله ما كان يمكن إلا بتقديمهم فأذن لهم في الإتيان بذلك السحر ليمكنه الإقدام على إبطاله فلهذا المعنى أمرهم بالإلقاء أولاً {لما ألقوا} حبالهم وعصيهم {سحروا} أي: صرفوا {أعين الناس} عن إدراك حقيقة ما فعلوه من التمويه والتخييل وهذا هو الفرق بين السحر الذي هو فعل البشر وبين معجزة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذي هو فعل الله تعالى وذلك لأنّ السحر ليس فيه قلب الأعيان وإنما فيه صرف أعين الناس عن إدراك ذلك الشيء بسبب التمويهات والمعجزة قلب ذلك الشيء حقيقة كقلب عصا موسى عليه السلام فإذا هي حية تسعى {واسترهبوهم} أي: أرهبوهم والسين زائدة قاله المبرد، وقال الزجاج: استدعوا رهبة الناس حتى رهبهم الناس وذلك بأن بعثوا جماعة ينادون عند إلقاء ذلك أيها الناس احذروا فهذا هو الاسترهاب {وجاؤوا} أي: السحرة {بسحر عظيم} .
روي أنّ السحرة قالوا: قد عملنا سحراً لا تطيقه سحرة أهل الأرض إلا أن يكون أمراً من السماء فإنه لا طاقة لنا به وذلك أنهم ألقوا حبالاً غلاظاً وخشباً طوالاً فإذا هي حيات تسعى كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضاً ويقال: إنهم طلوا تلك الحبال بالزئبق وجعلوا داخل تلك العصى زئبقاً ليضيء وألقوها على الأرض فلما أثر حرّ الشمس فيها تحرّكت والتوى بعضها على بعض حتى تخيل للناس أنها حيات تتحرّك وتلتوي باختيارها،
اسم الکتاب : السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير المؤلف : الخطيب الشربيني الجزء : 1 صفحة : 501