اسم الکتاب : التفسير الوسيط المؤلف : طنطاوي، محمد سيد الجزء : 1 صفحة : 209
أما الأول فلأن هذه الخصوصية لا مدخل لها في الإلزام، فأدير الأمر على القدر المشترك وعلى الحد الأوسط الذي هو عمود الدليل.
وأما الثاني فلأن إلقاء هذا الاسم على مسامع الأعداء من شأنه أن يخرج أضغانهم ويثير أحقادهم فيؤدى إلى عكس ما قصده الداعي من التأليف والإصلاح ...
كان جواب اليهود أن قالوا: إن الذي دعانا للإيمان بالتوراة ليس هو كونها أنزلها الله فحسب، بل إننا آمنا بها لأن الله أنزلها علينا. والقرآن لم ينزله علينا، فلكم قرآنكم ولنا توراتنا، ولكل أمة شرعة ومنهاج.
هذا هو المعنى الذي أوجزه القرآن في قوله: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وهذا هو المقصد الأول، وقد زاد إيجاز هذه العبارة أن حذف منها فاعل الإنزال وهو لفظ الجلالة، لأنه تقدم ذكره في نظيرتها.
ومن البين أن اقتصارهم على الإيمان بما أنزل عليهم يومئ إلى كفرانهم بما أنزل على غيرهم، وهذا هو المقصد الثاني، ولكنهم تحاشوا التصريح به لما فيه من شناعة التسجيل على أنفسهم بالكفر، فأراد القرآن أن يبرزه، أنظر كيف أبرزه؟ إنه لم يجعل لازم مذهبهم مذهبا له، ولم يدخل مضمون قولهم في جملة ما نقله من كلامهم، بل أخرجه في معرض الشرح والتعليق على مقالتهم فقال:
وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ أليس ذلك هو غاية الأمانة في النقل؟ .. ثم جاء دور الرد والمناقشة فيما أعلنوه وما أسروه.
فتراه لا يبدأ بمحاورتهم في دعوى إيمانهم بكتابهم، بل يتركها مؤقتا كأنها مسلمة ليس عليهم وجوب الإيمان بغيره من الكتب فيقول: كيف يكون الإيمان بكتابهم باعثا على الكفر بما هو حق مثله؟ لا بل هو الحق كله، وهل يعارض الحق الحق حتى يكون الإيمان بأحدهما موجبا للكفر بالآخر؟
ثم يترقى فيقول: وليس الأمر بين هذا الكتاب الجديد وبين الكتب السالفة عليه كالأمر بين كل حق وحق، فقد يكون الشيء حقا وغيره حقا فلا يتكاذبان، ولكنهما في شأنين مختلفين، فلا يشهد بعضها لبعض، أما هذا الكتاب فإنه جاء شاهدا ومصدقا لما بين يديه من الكتب، فكيف يكذب به من يؤمن بها.
فانظر إلى الإحكام في صنعة البيان: إنما هي كلمة رفعت وأخرى وضعت في مكانها عند الحاجة إليها، فكانت هذه الكلمة حسما لكل عذر، وسدا لكل باب من أبواب الهرب، بل
اسم الکتاب : التفسير الوسيط المؤلف : طنطاوي، محمد سيد الجزء : 1 صفحة : 209