responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 5  صفحة : 226
مَا يَكْرَهُونَهُ، وَيَرَوْنَ ذَلِكَ مِنْ إِبَاءِ الضَّيْمِ، وَيَرَوْنَ ذَلِكَ حَقًّا عَلَيْهِمْ، وَيَعُدُّونَ التَّقْصِيرَ فِي ذَلِكَ مَسَبَّةً وَعَارًا يُقْضَى مِنْهُ الْعَجَبُ. قَالَ مُرَّةُ بْنُ عَدَّاءٍ الْفَقْسِيُّ:
رَأَيْتُ مَوَالِيَّ الْأُلَى يَخْذُلُونَنِي ... عَلَى حَدَثَانِ الدَّهْرِ إِذْ يَتَقَلَّبُ
وَيَعُدُّونَ الِاهْتِمَامَ بِالْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ، حَتَّى يَقُولُونَ فِي الدُّعَاء: (فَذَاك أَبِي وَأُمِّي) ، فَكَانَتِ الْآيَةُ تُبْطِلُ هَذِهِ الْحَمِيَّةَ وَتَبْعَثُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الِانْتِصَارِ لِلْحَقِّ وَالدِّفَاعِ عَنِ الْمَظْلُومِ. فَإِنْ أَبَيْتَ إِلَّا جَعْلَ الْأَنْفُسِ بِمَعْنَى ذَوَاتِ الشَّاهِدِينَ فَاجْعَلْ عَطْفَ «الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ» بَعْدَ ذَلِكَ لِقَصْدِ الِاحْتِرَاسِ لِئَلَّا يَظُنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ يَشْهَدُ بِالْحَقِّ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّهُ، فَهُوَ أَمِيرُ نَفْسِهِ فِيهِ، وَأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى وَالِدَيْهِ أَوْ أَقَارِبِهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَسَبَّةِ وَالْمَعَرَّةِ أَوِ التَّأَثُّمِ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الشَّهَادَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنًى مُشْتَرِكٍ بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ، كَقَوْلِهِ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ [آل عمرَان: 18] .
وَقَوْلُهُ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً اسْتِئْنَافٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْعِلَّةِ لِمَجْمُوعِ جُمْلَةِ كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ: أَيْ إِنْ يَكُنِ الْمُقْسَطُ فِي حَقِّهِ، أَوِ الْمَشْهُودُ لَهُ، غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا، فَلَا يَكُنْ غِنَاهُ وَلَا فَقْرُهُ سَبَبًا لِلْقَضَاءِ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ وَالشَّهَادَةِ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ التَّحْذِيرُ مِنَ التَّأَثُّرِ بِأَحْوَالٍ يَلْتَبِسُ فِيهَا الْبَاطِلُ بِالْحَقِّ لِمَا يَحُفُّ بِهَا مِنْ عَوَارِضَ يُتَوَهَّمُ أَنَّ رَعْيَهَا ضَرْبٌ مِنْ إِقَامَةِ الْمَصَالِحِ، وَحِرَاسَةِ الْعَدَالَةِ، فَلَمَّا أَبْطَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي قَبْلَهَا التَّأَثُّرَ لِلَحْمِيَّةِ أُعْقِبَتْ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِإِبْطَالِ التَّأَثُّرِ بِالْمَظَاهِرِ الَّتِي تَسْتَجْلِبُ النُّفُوسَ إِلَى مُرَاعَاتِهَا فَيَتَمَحَّضُ نَظَرُهَا إِلَيْهَا. وَتُغْضِي بِسَبَبِهَا عَنْ تَمْيِيزِ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ. وَتَذْهَلُ عَنْهُ، فَمِنَ النُّفُوسِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْغِنَى يَرْبَأُ بِصَاحِبِهِ عَنْ أَخْذِ حَقِّ غَيْرِهِ، يَقُولُ فِي نَفْسِهِ: هَذَا فِي غُنْيَةٍ عَنْ أَكْلِ حَقِّ غَيْرِهِ، وَقَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِعَدَمِ الْحَاجَةِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَمِيلُ إِلَى الْفَقِيرِ رِقَّةً لَهُ، فَيَحْسَبُهُ مَظْلُومًا، أَوْ يَحْسَبُ أَنَّ الْقَضَاءَ لَهُ بِمَالِ الْغَنِيِّ لَا يَضُرُّ الْغَنِيَّ شَيْئًا فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ التَّأْثِيرَاتِ بِكَلِمَةٍ جَامِعَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما.
وَهَذَا التَّرْدِيدُ صَالِحٌ لِكُلٍّ مِنْ أَصْحَابِ هَذَيْنِ التَّوَهُّمَيْنِ، فَالَّذِي يُعَظِّمُ الْغَنِيَّ يَدْحَضُ لِأَجْلِهِ حَقَّ الْفَقِيرِ، وَالَّذِي يَرِقُّ لِلْفَقِيرِ يَدْحَضُ لِأَجْلِهِ حَقَّ الْغَنِيِّ، وَكِلَا ذَلِكَ بَاطِلٌ، فَإِنَّ الَّذِي يُرَاعِي حَالَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَيُقَدِّرُ إِصْلَاحَ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى.

اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 5  صفحة : 226
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست