responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 4  صفحة : 79
كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالرَّأْسِ فَيَكُونُ مُسْتَعَارًا هُنَا لِأَشْرَافِ الْمُشْرِكِينَ، أَيْ لِيَقْطَعَ مِنْ جِسْمِ الشِّرْكِ أَهَمَّ أَعْضَائِهِ، أَيْ لِيَسْتَأْصِلَ صَنَادِيدَ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَتَنْكِيرُ (طَرَفًا) لِلتَّفْخِيمِ، وَيُقَالُ: هُوَ مِنْ أَطْرَافِ الْعَرَبِ، أَيْ مِنْ أَشْرَافِهَا وَأَهْلِ بُيُوتَاتِهَا.
وَمَعْنَى أَوْ يَكْبِتَهُمْ يُصِيبَهُمْ بِغَمٍّ وَكَمَدٍ، وَأَصْلُ كَبَتَ كَبَدَ بِالدَّالِ إِذَا أَصَابَهُ فِي كَبِدِهِ. كَقَوْلِهِمْ: صُدِرَ إِذَا أُصِيبَ فِي صَدْرِهِ، وَكُلِيَ إِذَا أُصِيبَ فِي كُلْيَتِهِ، وَمُتِنَ إِذَا أُصِيبَ فِي مَتْنِهِ، وَرُئِيَ إِذَا أُصِيبَ فِي رِئَتِهِ، فَأُبْدِلَتِ الدَّالُ تَاءً وَقَدْ تُبْدَلُ التَّاءُ دَالًا كَقَوْلِهِمْ: سَبَدَ رَأْسَهُ وَسَبَتَهُ أَيْ حَلَقَهُ. وَالْعَرَبُ تَتَخَيَّلُ الْغَمَّ وَالْحُزْنَ مَقَرُّهُ الْكَبِدُ، وَالْغَضَبَ مَقَرُّهُ الصَّدْرُ وَأَعْضَاءُ التَّنَفُّسِ. قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ يَمْدَحُ سَيْفَ الدَّوْلَةِ حِينَ سَفَرِهِ عَنْ أَنْطَاكِيَةَ:
لِأَكْبِتَ حَاسِدًا وَأُرِي عَدُوًّا ... كَأَنَّهُمَا وَدَاعُكَ وَالرَّحِيلُ
وَقَدِ اسْتَقْرَى أَحْوَالَ الْهَزِيمَةِ فَإِنَّ فَرِيقًا قُتِلُوا فَقُطِعَ بِهِمْ طَرَفٌ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَفَرِيقًا كُبِتُوا وَانْقَلَبُوا خَائِبِينَ، وَفَرِيقًا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْإِسْلَامِ، فَأَسْلَمُوا، وَفَرِيقًا عُذِّبُوا بِالْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ عُذِّبُوا فِي الدُّنْيَا بِالذُّلِّ، وَالصَّغَارِ، وَالْأَسْرِ، وَالْمَنِّ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْفَتْحِ، بَعْدَ أَخْذِ بَلَدِهِمْ وَ «أَوْ» بَيْنَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ لِلتَّقْسِيمِ.
وَهَذَا الْقَطْعُ وَالْكَبْتُ قَدْ مَضَيَا يَوْمَ بَدْرٍ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ بِنَحْوِ سَنَتَيْنِ، فَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمَا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِقَصْدِ اسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ فِي ذَلِكَ النَّصْرِ الْمُبِينِ الْعَزِيزِ النَّظِيرِ.
وَجُمْلَةُ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ، وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَيَجُوزُ أَنْ تُحْمَلَ عَلَى صَرِيحِ لَفْظِهَا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى نَفْيُ أَنْ يكون للنّبيء، أَي لِقِتَالِهِ الْكُفَّارَ بِجَيْشِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، تَأْثِيرٌ فِي حُصُولِ النَّصْرِ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا فِي قِلَّةٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ الْقِتَالِ، أَيْ فَالنَّصْرُ حَصَلَ بِمَحْضِ فَضْلِ اللَّهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الْأَنْفَال:
17] .

اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 4  صفحة : 79
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست