responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 4  صفحة : 124
اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْإِشْرَاكِ بِهِ، وَمِنْ حِكْمَتِهِ تَعَالَى أَنْ رَتَّبَ عَلَى الْأُمُورِ الْخَبِيثَةِ آثَارًا خَبِيثَةً، فَإِنَّ الشِّرْكَ لَمَّا كَانَ اعْتِقَادَ تَأْثِيرِ مَنْ لَا تَأْثِيرَ لَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ يَرْتَكِزُ فِي نُفُوسِ مُعْتَقَدِيهِ عَلَى غَيْرِ دَلِيلٍ، كَانَ مِنْ شَأْنِ مُعْتَقِدِهِ أَنْ يَكُونَ مُضْطَرِبَ النَّفْسِ مُتَحَيِّرًا فِي الْعَاقِبَةِ فِي تَغَلُّبِ بَعْضِ الْآلِهَةِ عَلَى بَعْضٍ، فَيَكُونُ لِكُلِّ قَوْمٍ صَنَمٌ هُمْ أَخَصُّ بِهِ، وَهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ
لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَصْنَامِ مِثْلُ مَا لَهُ مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْغَيْرَةِ. فَلَا تَزَالُ آلِهَتُهُمْ فِي مُغَالَبَةٍ وَمُنَافَرَةٍ. كَمَا لَا يَزَالُ أَتْبَاعُهُمْ كَذَلِكَ، وَالَّذِينَ حَالُهُمْ كَمَا وَصَفْنَا لَا يَسْتَقِرُّ لَهُمْ قَرَارٌ فِي الثِّقَةِ بِالنَّصْرِ فِي حُرُوبِهِمْ، إِذْ هُمْ لَا يَدْرُونَ هَلِ الرِّبْحُ مَعَ آلِهَتِهِمْ أَمْ مَعَ أَضْدَادِهَا، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً صِلَةٌ أُجْرِيَتْ عَلَى الْمُشْرِكِ بِهِ لَيْسَ الْقَصْدُ بِهَا تَعْرِيفُ الشُّرَكَاءِ، وَلَكِنْ قُصِدَ بِهَا الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ إِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ، إِذْ هُمْ عَلَى غَيْرِ يَقِينٍ فِيمَا أَشْرَكُوا وَاعْتَقَدُوا، فَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ مُتَزَلْزِلَةٌ، إِذْ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ الشُّرَكَاءَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ سُلْطَانٌ. فَإِنْ قُلْتَ: مَا ذَكَرْتَهُ يَقْتَضِي أَنَّ الشِّرْكَ سَبَبٌ فِي إِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ أَهْلِهِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الرُّعْبُ نَازِلًا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْوَقْعَةِ، وَاللَّهُ يَقُولُ سَنُلْقِي» أَيْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، قُلْتُ: هُوَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ تَسْتَكِنُّ فِي النُّفُوسِ حَتَّى يَدْعُوَ دَاعِي ظُهُورِهَا، فَالرُّعْبُ وَالشَّجَاعَةُ صِفَتَانِ لَا تَظْهَرَانِ إِلَّا عِنْدَ الْقِتَالِ، وَتَقْوَيَانِ وَتَضْعُفَانِ، فَالشُّجَاعُ تَزِيدُ شَجَاعَتُهُ بِتَكَرُّرِ الِانْتِصَارِ، وَقَدْ يَنْزَوِي قَلِيلًا إِذَا انْهَزَمَ ثُمَّ تَعُودُ لَهُ صِفَتُهُ سَرْعَى. كَمَا وَصَفَهُ عَمْرُو بْنُ الْإِطْنَابَةَ فِي قَوْلِهِ:
وَقُولِي كُلَّمَا جَشَأَتْ وَجَاشَتْ ... مَكَانَكِ تُحْمَدِي أَوْ تَسْتَرِيحِي
وَقَوْلِ الْحُصَيْنِ بْنِ الْحُمَامِ:
تَأَخَّرْتُ أَسْتَبْقِي الْحَيَاةَ فَلَمْ أَجِدْ ... لِنَفْسَيْ حَيَاةً مِثْلَ أَنْ أَتَقَدَّمَا
وَكَذَلِكَ الرُّعْبُ وَالْجُبْنُ قَدْ يَضْعُفُ عِنْدَ حُصُولِ بَارِقَةِ انْتِصَارٍ، فَالْمُشْرِكُونَ لما انْهَزمُوا بادىء الْأَمْرِ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَّتْ عَزِيمَتُهُمْ، ثُمَّ لَمَّا ابْتَلَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْهَزِيمَةِ رَاجَعَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الشَّجَاعَةِ وَالِازْدِهَاءِ، وَلَكِنَّهُمْ بَعْدَ انْصِرَافِهِمْ

اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 4  صفحة : 124
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست