responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 4  صفحة : 120
فِيهَا صُدُورُ مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ، عَلَى قَوْلِهِمْ: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا إِلَى آخِرِهِ، فَصِيغَةُ الْقَصْرِ فِي قَوْلِهِ: وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا قَصْرٌ إِضَافِيٌّ لِرَدِّ اعْتِقَادِ مَنْ قَدْ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُمْ قَالُوا أقوالا تنبىء عَنِ الْجَزَعِ، أَوِ الْهَلَعِ، أَوِ الشَّكِّ فِي النَّصْرِ، أَوِ الِاسْتِسْلَامِ لِلْكُفَّارِ. وَفِي هَذَا الْقَصْرِ تَعْرِيضٌ بِالَّذِينَ جَزِعُوا مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَوِ الْمُنَافِقِينَ فَقَالَ قَائِلُهُمْ: لَوْ كَلَّمْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ يَأْخُذُ لَنَا أَمَانًا مِنْ أَبِي سُفْيَانَ.
وَقُدِّمَ خَبَرُ (كَانَ) عَلَى اسْمِهَا فِي قَوْلِهِ: وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ مُبْتَدَأٍ مَحْصُورٍ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حَصْرُ أَقْوَالِهِمْ حِينَئِذٍ فِي مَقَالَةِ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا فَالْقَصْرُ حَقِيقِيّ لأنّه قصر لِقَوْلِهِمُ الصَّادِرِ مِنْهُمْ، حِينَ حُصُولِ مَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَذَلِكَ الْقَيْدُ مُلَاحَظٌ مِنَ الْمَقَامِ، نَظِيرَ الْقَصْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا [النُّور: 51] فَهُوَ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ مُقَيَّدٌ بِزَمَانٍ خَاصٍّ، تَقْيِيدًا مَنْطُوقًا بِهِ، وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ تَوْجِيهِ تَقْدِيمِ الْخَبَرِ فِي الْآيَةِ بِأَنَّ الْمصدر المنسبك المؤوّل أَعْرَفُ مِنَ الْمَصْدَرِ الصّريح لدلَالَة المؤوّل عَلَى النِّسْبَةِ وَزَمَانِ الْحَدَثِ،
بِخِلَافِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ الصَّرِيحِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ فِي بَابِ (كَانَ) فِي غَيْرِ صِيَغِ الْقَصْرِ، وَأَمَّا فِي الْحَصْرِ فَمُتَعَيِّنٌ تَقْدِيمُ الْمَحْصُورِ.
وَالْمُرَادُ مِنَ الذُّنُوبِ جَمِيعِهَا، وَعَطَفَ عَلَيْهِ بَعْضَ الذُّنُوبِ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ هُنَا بِالْإِسْرَافِ فِي الْأَمْرِ، وَالْإِسْرَافُ هُوَ الْإِفْرَاطُ وَتَجَاوُزُ الْحَدِّ، فَلَعَلَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْكَبَائِرُ مِنَ الذُّنُوبِ كَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ، وَعَلَيْهِ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَمْرِنَا، أَيْ دِينِنَا وَتَكْلِيفِنَا، فَيَكُونُ عَطْفَ خَاصٍّ لِلِاهْتِمَامِ بِطَلَبِ غُفْرَانِهِ، وَتَمَحُّضُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ لِبَقِيَّةِ الذُّنُوبِ وَهِيَ الصَّغَائِرُ. وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِسْرَافِ فِي الْأَمْرِ التَّقْصِيرُ فِي شَأْنِهِمْ وَنِظَامِهِمْ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى أُهْبَةِ الْقِتَالِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لَهُ، أَوِ الْحَذَرِ مِنَ الْعَدُوِّ، وَهَذَا الظَّاهِرُ مِنْ كَلِمَةِ أَمْرٍ، بِأَنْ يَكُونُوا شَكُّوا أَنْ يَكُونَ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ هَزِيمَتِهِمْ فِي الْحَرْبِ مَعَ عَدُوِّهِمْ نَاشِئًا عَنْ سَبَبَيْنِ: بَاطِنٍ وَظَاهِرٍ، فَالْبَاطِنُ هُوَ غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ جِهَةِ الذُّنُوبِ، وَالظَّاهِرُ هُوَ تَقْصِيرُهُمْ فِي الِاسْتِعْدَادِ وَالْحَذَرِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ.

اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 4  صفحة : 120
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست