responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 720
فَإِنَّ الدَّعْوَةَ الْأُولَى لِطَلَبِ تَقَبُّلِ الْعَمَلِ وَالثَّانِيَةَ لِطَلَبِ الِاهْتِدَاءِ فَجُمْلَةُ النِّدَاءِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ هُنَا وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ الْآتِي: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا [الْبَقَرَة:
129] .
وَالْمُرَادُ بِمُسْلِمَيْنِ لَكَ الْمُنْقَادَانِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِذِ الْإِسْلَامُ الِانْقِيَادُ، وَلَمَّا كَانَ الِانْقِيَادُ لِلْخَالِقِ بِحَقٍّ يَشْمَلُ الْإِيمَانَ بِوُجُودِهِ وَأَنْ لَا يُشْرِكَ فِي عِبَادَتِهِ غَيْرَهُ وَمَعْرِفَةَ صِفَاتِهِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا فِعْلُهُ كَانَتْ حَقِيقَةُ الْإِسْلَامِ مُلَازِمَةً لِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ، وَوَجْهُ تَسْمِيَةِ ذَلِكَ إِسْلَامًا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: 132] ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى:
قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا [الحجرات: 14] فَإِنَّهُ فَكَّكَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ إِسْلَامَهُمْ كَانَ عَنْ خَوْفٍ لَا عَنِ اعْتِقَادٍ، فَالْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ مُتَغَايِرَانِ مَفْهُومًا وَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ فِي الْمَاصَدَقَ، فَالتَّوْحِيدُ فِي زَمَنِ الْفَتْرَةِ إِيمَانٌ لَا يُتَرَقَّبُ مِنْهُ انْقِيَادٌ إِذِ الِانْقِيَادُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِالْأَعْمَالِ، وَانْقِيَادُ الْمَغْلُوبِ الْمُكْرَهِ إِسْلَامٌ لَمْ يَنْشَأْ عَنِ اعْتِقَادِ إِيمَانٍ، إِلَّا أَنَّ صُورَتَيِ الِانْفِرَادِ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ نَادِرَتَانِ.
أَلْهَمَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ اسْمَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ ادَّخَرَهُ بَعْدَهُ لِلدِّينِ الْمُحَمَّدِيِّ فَنُسِيَ هَذَا الِاسْمُ بَعْدَ
إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ يُلَقَّبْ بِهِ دِينٌ آخَرُ لِأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ الْمُحَمَّدِيُّ إِتْمَامًا لِلْحَنِيفِيَّةِ دِينِ إِبْرَاهِيمَ وَسَيَجِيءُ بَيَانٌ لِهَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [67] .
وَمَعْنَى طَلَبِ أَنْ يَجْعَلَهُمَا مُسْلِمَيْنِ هُوَ طَلَبُ الزِّيَادَةِ فِي مَا هُمَا عَلَيْهِ مِنَ الْإِسْلَامِ وَطَلَبِ الدَّوَامِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَهُمَا مُسْلِمَيْنِ مِنْ قَبْلُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ [الْبَقَرَة: 131] الْآيَةَ.
وَقَوْلُهُ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا ومُسْلِمَةً مَعْمُولَيْنِ لِفِعْلِ وَاجْعَلْنا بِطَرِيقِ الْعَطْفِ، وَهَذَا دُعَاءٌ بِبَقَاءِ دِينِهِمَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا، وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا لِلتَّبْعِيضِ، وَإِنَّمَا سَأَلَا ذَلِكَ لِبَعْضِ الذُّرِّيَّةِ جَمْعًا بَيْنَ الْحِرْصِ عَلَى حُصُولِ الْفَضِيلَةِ لِلذُرِّيَّةِ وَبَيْنَ الْأَدَبِ فِي الدُّعَاءِ لِأَنَّ نُبُوءَةَ إِبْرَاهِيمَ تَقْتَضِي عِلْمَهُ بِأَنَّهُ سَتَكُونُ ذُرِّيَّتُهُ أُمَمًا كَثِيرَةً وَأَنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ فِي هَذَا الْعَالَمِ جَرَتْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنِ اشْتِمَالِهِ عَلَى الْأَخْيَارِ وَالْأَشْرَارِ فَدَعَا اللَّهَ بِالْمُمْكِنِ عَادَةً، وَهَذَا مِنْ أَدَبِ الدُّعَاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [الْبَقَرَة: 124] .
وَمِنْ هُنَا ابْتُدِئَ التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنِ التَّوْحِيدِ وَاتَّبَعُوا الشِّرْكَ، وَالتَّمْهِيدُ لِشَرَفِ الدِّينِ الْمُحَمَّدِيِّ.

اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 720
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست