responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 698
بِأَحْوَالِهِمُ الْكَثِيرَةِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا عَقِبَ قَوْلِهِ: وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ [الْبَقَرَة: 46] فَذِكْرُ مِثْلِ هَاتِهِ الْجُمْلَةِ هُنَاكَ كَذِكْرِ الْمَطْلُوبِ فِي صِنَاعَةِ الْمَنْطِقِ قَبْلَ إِقَامَةِ الْبُرْهَانِ وَذِكْرُهَا هُنَا كَذِكْرِ النَّتِيجَةِ فِي الْمَنْطِقِ عَقِبَ الْبُرْهَانِ تَأْيِيدًا لِمَا تَقَدَّمَ وَفَذْلَكَةً لَهُ وَهُوَ مِنْ ضُرُوبِ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ.
وَقَدْ أُعِيدَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِالْأَلْفَاظِ الَّتِي ذكرت بهَا هُنَا لَك لِلتَّنْبِيهِ عَلَى نُكْتَةِ التَّكْرِيرِ لِلتَّذْكِيرِ وَلَمْ يُخَالِفْ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ إِلَّا من التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالشَّفَاعَةِ فَهُنَالِكَ قَدَّمَ وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ [الْبَقَرَة: 48] وَأَخَّرَ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ [الْبَقَرَة: 48] وَهُنَا قَدَّمَ وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَأَخَّرَ لَفْظَ الشَّفَاعَةِ مُسْنَدًا إِلَيْهِ تَنْفَعُها وَهُوَ تَفَنُّنٌ وَالتَّفَنُّنُ فِي الْكَلَامِ تَنْتَفِي بِهِ سَآمَةُ الْإِعَادَةِ مَعَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنَ التَّكْرِيرِ. وَقَدْ حَصُلَ مَعَ التَّفَنُّنِ نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ إِذْ جَاءَتِ الشَّفَاعَةُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مُسْنَدًا إِلَيْهَا الْمَقْبُولِيَّةُ فَقُدِّمَتْ عَلَى الْعَدْلِ بِسَبَبِ نَفْيِ قَبُولِهَا وَنَفْيُ قَبُولِ الشَّفَاعَةِ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ أَخْذِ الْفِدَاءِ فَعَطَفَ نَفْيَ أَخَذِ الْفِدَاءِ لِلِاحْتِرَاسِ، وَأَمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَدَّمَ الْفِدَاءَ لِأَنَّهُ أُسْنِدَ إِلَيْهِ الْمَقْبُولِيَّةُ وَنَفْيُ قَبُولِ الْفِدَاءِ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ نَفْعِ الشَّفَاعَةِ فَعَطَفَ نَفْيَ نَفْعِ الشَّفَاعَةِ عَلَى نَفْيِ قَبُولِ الْفِدَاءِ لِلِاحْتِرَاسِ أَيْضًا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الَّذِي نُفِيَ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ مَقْبُولًا قَدْ جُعِلَ فِي الْآيَتَيْنِ أَوَّلًا وَذُكِرَ الْآخَرُ بَعْدَهُ. وَأَمَّا نَفْيُ الْقَبُولِ مَرَّةً عَنِ الشَّفَاعَةِ وَمَرَّةً عَنِ الْعَدْلِ فَلِأَنَّ أَحْوَالَ الْأَقْوَامِ فِي طَلَبِ الْفِكَاكِ عَنِ الْجُنَاةِ تَخْتَلِفُ، فَمَرَّةً يُقَدِّمُونَ الْفِدَاءَ فَإِذَا لَمْ يُقْبَلْ قَدَّمُوا الشُّفَعَاءَ، وَمَرَّةً يُقَدِّمُونَ
الشُّفَعَاءَ فَإِذَا لَمْ تُقْبَلْ شَفَاعَتُهُمْ عَرَضُوا الْفِدَاءَ.
وَقَوْلُهُ: وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ مُرَادٌ مِنْهُ أَنَّهُ لَا عَدْلَ فَيُقْبَلُ وَلَا شَفَاعَةَ شَفِيعٍ يَجِدُونَهُ فَتُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ لِأَنَّ دَفْعَ الْفِدَاءِ مُتَعَذِّرٌ وَتَوَسُّطَ الشَّفِيعِ لِمِثْلِهِمْ مَمْنُوعٌ إِذْ لَا يَشْفَعُ الشَّفِيعُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ اللَّهُ لَهُ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ فَيَكُونُ نَفْيُ نَفْعِ الشَّفَاعَةِ هُنَا مِنْ بَابِ قَوْلِهِ:
على لَا حب لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ [1] يُرِيدُ أَنَّهَا كِنَايَةٌ عَنْ نَفْيِ الْمَوْصُوفِ بِنَفْيِ صِفَتِهِ الْمُلَازِمَةِ

[1] قَائِله امْرُؤ الْقَيْس، وَقَبله:
وَإِنِّي زعيم إِن رجعت مملكا ... بسير ترى مِنْهُ الفرانق أزدرا
على لَا حب إِلَخ ... ... إِذا سافه العوذ الديا فِي جرجرا
القرانق بِضَم الْفَاء وَكسر النُّون هُوَ الَّذِي يدل صَاحب الْبَرِيد. وأزدرا أفعل تَفْضِيل لُغَة فِي أصْدرَا قرىء بهَا قَوْله تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً [الزلزلة: 4] . اللاحب: الطَّرِيق الْوَاسِع.
والمنار: الْعَلامَة. وسافه: شده. والديافي مَنْسُوب إِلَى دياف- بِكَسْر الدَّال- قَرْيَة تنْسب لَهَا كرام الْإِبِل. وجرجرا: أَي صَوت. وَالْمعْنَى أَنه يعدانه إِذا رَجَعَ ليعيدن السّير فِي طَرِيق صعبة المسالك.
وَفِي «شرح التفتازانيّ على الْمِفْتَاح» فِي بَاب الإيجاز والإطناب ذكر أول هَذَا الْبَيْت هَكَذَا:
سدا بيدَيْهِ ثمَّ أج بسيره ... على لاحب ... إِلَخ.
قَالَ وَهُوَ فِي وصف ظليم وسدا بِمَعْنى مد وَهُوَ مجَاز عَن السرعة. وأج الظليم إِذا جرى وَسمع لَهُ حفيف.
اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 698
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست