responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 563
الْمَجَازُ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ وَصَارَ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَى الْقَرِينَةِ فَآلَ اللَّفْظُ إِلَى الدَّلَالَةِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرِكِ بِالِاسْتِعْمَالِ لَا بِأَصْلِ الْوَضْعِ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْعَطْفُ فِي قَوْلِهِ: أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً كَمَا سَيَأْتِي.
وَقَوْلُهُ: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ تَشْبِيهُ فَرْعٍ بِالْفَاءِ لِإِرَادَةِ ظُهُورِ التَّشْبِيهِ بَعْدَ حِكَايَةِ الْحَالَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِقَسَتْ لِأَنَّ الْقَسْوَةَ هِيَ وَجْهُ الشَّبَهِ وَلِأَنَّ أَشْهَرَ الْأَشْيَاءِ فِي هَذَا الْوَصْف هُوَ الْحجر فَإِذَا ذُكِرَتِ الْقَسْوَةُ فَقَدْ تَهَيَّأَ التَّشْبِيهُ بِالْحَجَرِ وَلِذَا عَطَفَ بِالْفَاءِ أَيْ إِذَا عَلِمْتَ أَنَّهَا قَاسِيَةٌ فَشَبَّهَهَا بِالْحِجَارَةِ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ يَصِفُ الْحَجِيجَ:
عَلَيْهِنَّ شَعَثٌ عَامِدُونَ لِرَبِّهِمْ ... فَهُنَّ كَأَطْرَافِ الْحَنِيِّ خَوَاشِعُ
وَقَدْ كَانَتْ صَلَابَةُ الْحَجَرِ أَعْرَفَ لِلنَّاسِ وَأَشْهَرَ لِأَنَّهَا مَحْسُوسَةٌ فَلِذَلِكَ شُبِّهَ بِهَا، وَهَذَا الْأُسْلُوبُ يُسَمَّى عِنْدِي تَهْيِئَةَ التَّشْبِيهِ وَهُوَ مِنْ مَحَاسِنِهِ، وَإِذَا تَتَبَّعْتَ أَسَالِيبَ التَّشْبِيهِ فِي كَلَامِهِمْ تَجِدُهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ ضَرْبٌ لَا يُهَيَّأُ فِيهِ التَّشْبِيهُ وَهُوَ الْغَالِبُ وَضَرْبٌ يُهَيَّأُ فِيهِ كَمَا هُنَا وَالْعَطْفُ بِالْفَاءِ فِي مِثْلِهِ حَسَنٌ جِدًّا وَأَمَّا أَنْ يَأْتِيَ الْمُتَكَلِّمُ بِمَا لَا يُنَاسِبُ التَّشْبِيهَ فَذَلِك عِنْدِي بعد مَذْمُومًا. وَقَدْ رَأَيْتُ بَيْتًا جَمَعَ تَهْيِئَةَ التَّشْبِيهِ وَالْبُعْدَ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ نَبَاتَةَ:
فِي الرِّيقِ سُكْرٌ وَفِي الْأَصْدَاغِ تَجْعِيدُ ... هَذَا الْمُدَامُ وَهَاتِيكَ الْعَنَاقِيدُ
فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ السُّكْرَ تَهَيَّأَ التَّشْبِيهُ بِالْخَمْرِ وَلَكِنَّ قَوْلَهُ: تَجْعِيدٌ لَا يُنَاسِبُ الْعَنَاقِيدَ.
فَإِنْ قُلْتَ لِمَ عَدَدْتَهُ مَذْمُومًا وَمَا هُوَ إِلَّا كَتَجْرِيدِ الِاسْتِعَارَةِ؟
قُلْتُ: لَا لِأَنَّ التَّجْرِيدَ يَجِيءُ بَعْدَ تَكَرُّرِ الِاسْتِعَارَةِ وَعِلْمٍ بِهَا فَيَكُونُ تَفَنُّنًا لَطِيفًا بِخِلَافِ مَا يَجِيءُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالتَّشْبِيهِ.
وَقَوْلُهُ: أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ وَ (أَوْ) بِمَعْنَى بَلِ الِانْتِقَالِيَّةِ لِتَوَفُّرِ شَرْطِهَا وَهُوَ كَوْنُ مَعْطُوفِهَا جُمْلَةً. وَهَذَا الْمَعْنَى مُتَوَلِّدٌ مِنْ مَعْنَى التَّخْيِيرِ الْمَوْضُوعَةِ لَهُ (أَوْ) لِأَنَّ الِانْتِقَالَ يَنْشَأُ عَنِ التَّخْيِيرِ فَإِنَّ الْقُلُوبَ بَعْدَ أَنْ شُبِّهَتْ بِالْحِجَارَةِ وَكَانَ الشَّأْنُ يَكُونَ الْمُشَبَّهُ أَضْعَفَ فِي الْوَصْفِ مِنَ الْمُشَبَّهِ بِهِ يُبْنَى عَلَى ذَلِكَ ابْتِدَاءُ التَّشْبِيهِ بِمَا هُوَ أَشْهَرُ ثُمَّ عَقَّبَ التَّشْبِيهَ بِالتَّرَقِّي إِلَى التَّفْضِيلِ فِي وَجْهِ الشَّبَهِ عَلَى حَدِّ قَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ [1] :

[1] نسبه إِلَيْهِ ابْن جني وَقَالَ الْبَغْدَادِيّ لم أَجِدهُ فِي «ديوَان ذِي الرمة» .
اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 563
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست