responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 507
وَالْجَهْرَةُ مَصْدَرٌ بِوَزْنِ فَعْلَةٍ مِنَ الْجَهْرِ وَهُوَ الظُّهُورُ الْوَاضِحُ فَيُسْتَعْمَلُ فِي ظُهُورِ الذَّوَاتِ وَالْأَصْوَاتِ حَقِيقَةً عَلَى قَوْلِ الرَّاغِبِ إِذْ قَالَ: «الْجَهْرُ ظُهُورُ الشَّيْءِ بِإِفْرَاطٍ إِمَّا بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ نَحْوَ رَأَيْتُهُ جِهَارًا وَمِنْهُ جَهَرَ الْبِئْرَ إِذَا أَظْهَرَ مَاءَهَا، وَإِمَّا بِحَاسَّةِ السَّمْعِ نَحْوَ:
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ [طه: 7] » وَكَلَامُ «الْكَشَّافِ» مُؤْذِنٌ بِأَنَّ الْجَهْرَ مَجَازٌ فِي الرُّؤْيَةِ بِتَشْبِيهِ الَّذِي يَرَى بِالْعَيْنِ بِالْجَاهِرِ بِالصَّوْتِ وَالَّذِي يَرَى بِالْقَلْبِ بِالْمُخَافِتِ، وَكَانَ الَّذِي حَدَاهُ عَلَى ذَلِكَ اشْتِهَارُ اسْتِعْمَالِ الْجَهْرِ فِي الصَّوْتِ وَفِي هَذَا كُلِّهِ بُعْدٌ إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ جَهْرَةَ الصَّوْتِ هِيَ الْحَقِيقَةُ وَلَا سَبِيلَ إِلَى دَعْوَى الِاشْتِهَارِ فِي جَهْرَةِ الصَّوْتِ حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ إِنَّ الِاشْتِهَارَ مِنْ عَلَامَاتِ الْحَقِيقَةِ عَلَى أَنَّ الِاشْتِهَارَ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِهِ الْمَجَازُ الْقَلِيلُ الِاسْتِعْمَالِ، وَأَمَّا الْأَشْهَرِيَّةُ فَلَيْسَتْ مِنْ عَلَامَاتِ الْحَقِيقَةِ، وَلِأَنَّهُ لَا نُكْتَةَ فِي هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ وَلَا غَرَضَ يَرْجِعُ إِلَى الْمُشَبَّهِ مِنْ هَذَا التَّشْبِيهِ فَإِنَّ ظُهُورَ الذَّوَاتِ أَوْضَحُ مِنْ ظُهُورِ الْأَصْوَاتِ.
وَانْتَصَبَ (جَهْرَةً) عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِبَيَانِ نَوْعِ فِعْلِ تَرَى لِأَنَّ مِنَ الرُّؤْيَةِ مَا يَكُونُ لَمْحَةً أَوْ مَعَ سَائِرٍ شَفَّافٍ فَلَا تَكُونُ وَاضِحَةً.
وَوَجْهُ الْعُدُولِ عَنْ أَنْ يَقُولَ عِيَانًا إِلَى قَوْلِهِ (جَهْرَةً) لِأَنَّ جَهْرَةً أَفْصَحُ لَفْظًا لِخِفَّتِهِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَبْدُوءٍ بِحَرْفِ حَلْقٍ وَالِابْتِدَاءُ بِحَرْفِ الْحَلْقِ أَتْعَبُ لِلْحَلْقِ مِنْ وُقُوعِهِ فِي وَسَطِ الْكَلَامِ وَلِسَلَامَتِهِ مِنْ حَرْفِ الْعِلَّةِ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِي الْبُلَغَاءُ بَعْضَ الْأَلْفَاظِ عَلَى بَعْضٍ لِحُسْنِ وَقْعِهَا فِي الْكَلَامِ وَخِفَّتِهَا عَلَى السَّمْعِ وَلِلْقُرْآنِ السَّهْمُ الْمُعَلَّى فِي ذَلِكَ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ.
وَقَوْلُهُ: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ أَيْ عُقُوبَةً لَهُمْ عَمَّا بَدَا مِنْهُمْ مِنَ الْعَجْرَفَةِ وَقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِالْمُعْجِزَاتِ. وَهَذِهِ عُقُوبَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُعَاقَبَ عَلَيْهِ حَرَامٌ أَوْ كُفْرٌ لَا
سِيَّمَا وَقَدْ قُدِّرَ أَنَّ مَوْتَهُمْ بِالصَّاعِقَةِ لَا يَدُومُ إِلَّا قَلِيلًا فَلَمْ تَكُنْ مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ فِي إِصَابَةِ الصَّاعِقَةِ لَهُمْ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَحِيلَةٌ وَأَنَّ سُؤَالَهَا وَالْإِلْحَاحَ فِيهِ كُفْرٌ كَمَا زَعَمَ الْمُعْتَزِلَةُ وَأَنْ لَا حَاجَةَ إِلَى الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الصَّاعِقَةَ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ تَعَالَى يُشَبِّهُ الْأَجْسَامَ فَكَانُوا بِذَلِكَ كَافِرِينَ إِذْ لَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ وَلَا غَيْرِهَا عَلَى أَنَّهُمْ كَفَرُوا، كَيْفَ وَقَدْ سَأَلَ الرُّؤْيَةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَالصَّاعِقَةُ نَارٌ كَهْرَبَائِيَّةٌ مِنَ السَّحَابِ تَحْرِقُ مَنْ أَصَابَتْهُ، وَقَدْ لَا تَظْهَرُ النَّارُ وَلَكِنْ يَصِلُ هَوَاؤُهَا إِلَى الْأَحْيَاءِ فَيَخْتَنِقُونَ بِسَبَبِ مَا يُخَالِطُ الْهَوَاءَ الَّذِي يَتَنَفَّسُونَ فِيهِ مِنَ الْحَوَامِضِ النَّاشِئَةِ عَنْ شِدَّةِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الَّذِي أَصَابَهُمْ نَارٌ، وَقِيلَ: سَمِعُوا صَعْقَةً فَمَاتُوا.

اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 507
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست