responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 461
وَهَذِهِ الْكِنَايَةُ تَعْرِيضِيَّةٌ لِأَنَّ غَرَضَ الْمَعْنَى الْكِنَائِيِّ غَيْرُ غَرَضِ الْمَعْنَى الصَّرِيحِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي اسْتَخْلَصْتُهُ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى التَّعْرِيضِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ غَرَضُ الْحُكْمِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِهِ غَيْرَ غَرَضِ الْحُكْمِ الْمُصَرَّحِ بِهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمَحْكُومُ لَهُ بِهِ غَيْرَ الْمَحْكُومِ لَهُ بِالصَّرِيحِ. وَهَذَا الْوَجْهُ مُسْتَنِدٌ إِلَى الظَّاهِرِ وَالتَّحْقِيقِ بَيْنَ مُتَنَاثِرِ كَلَامِهِمْ فِي التَّعْرِيضِ الْمَعْرُوفِ مِنَ الْكِنَايَةِ (1)
وَيَنْدَفِعُ بِهَذَا سُؤَالَانِ مستقلان أَحدهمَا ناشىء عَمَّا قَبْلَهُ: الْأَوَّلُ كَيْفَ يَصِحُّ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَكُونُوا أَوَّلَ الْكَافِرِينَ وَمَفْهُومُهُ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَوْ كَفَرُوا بِهِ ثَانِيًا لَمَا كَانَ كُفْرُهُمْ مَنْهِيًّا عَنْهُ؟
الثَّانِي أَنَّهُ قَدْ سَبَقَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ لِلْكُفْرِ لِأَنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ فِي خِطَابِ الْيَهُودِ نَزَلَتْ فِي الْمَدِينَةِ فَقَدْ تَحَقَّقَ أَنَّ الْيَهُودَ لَمْ يَكُونُوا أَوَّلَ الْكَافِرِينَ فَالنَّهْيُ عَنْ أَنْ يَكُونُوا أَوَّلَ الْكَافِرِينَ تَحْصِيلُ حَاصِلٍ. وَوَجْهُ الِانْدِفَاعِ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَهَمَّ هُوَ الْمَعْنَى التَّعْرِيضِيُّ وَهُوَ يَقُومُ قَرِينَةً عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ مِنَ النَّهْيِ أَنْ لَا يَكُونُوا مِنَ الْمُبَادِرِينَ بِالْكُفْرِ أَيْ لَا يَكُونُوا مُتَأَخِّرِينَ فِي الْإِيمَانِ وَهَذَا أَوَّلُ الْوُجُوهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ عِنْدَ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» وَاخْتَارَهُ الْبَيْضَاوِيُّ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّعْرِيضَ فِي خُصُوصِ وَصْفِ «أَوَّلَ» وَأَمَّا أَصْلُ النَّهْيِ عَنْ أَنْ يَكُونُوا كَافِرِينَ بِهِ فَذَلِكَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ حَقِيقَةً وَصَرِيحًا. وَالتَّعْرِيضُ مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَةِ التَّلْوِيحِيَّةِ لِمَا فِيهِ مِنْ خَفَاءِ الِانْتِقَالِ مِنَ الْمَعْنَى إِلَى لَوَازِمِهِ. وَبَعْضُ التَّعْرِيضِ يَحْصُلُ مِنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ عِنْدَ النُّطْقِ بِالْكَلَامِ وَلَعَلَّ هَذَا لَا يُوصَفُ بِحَقِيقَةٍ وَلَا مَجَازٍ وَلَا كِنَايَةٍ وَهُوَ مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرَاكِيبِ وَدِلَالَتِهَا الْعَقْلِيَّةِ وَسَيَجِيءُ لِهَذَا زِيَادَةُ بَيَانٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ [الْبَقَرَة: 235] فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
الْمَعْنَى الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ التَّعْرِيضَ بِالْمُشْرِكِينَ وَأَنَّهُمْ أَشَدُّ مِنَ الْيَهُودِ كُفْرًا أَيْ لَا تَكُونُوا فِي عِدَادِهِمْ وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ مُرَادُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» مِنْ قَوْلِهِ: «وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ وَلَا تَكُونُوا مِثْلَ أَوَّلِ كَافِرٍ بِهِ يَعْنِي مَنْ أَشْرَكَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ» وَلَا يُرِيدُ أَنَّهُ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ وَإِنْ كَانَ كَلَامُهُ يُوهِمُهُ وَسَكَتَ عَنْهُ شُرَّاحُهُ.

(1) والتكنى عَن الاتصاف بالنقيض بِلَفْظ النَّهْي عَن أَن يكون أول فِي نقيضه طَريقَة عَرَبِيَّة ورد عَلَيْهَا قَول أبي الْعَاصِ الثَّقَفِيّ لِقَوْمِهِ ثَقِيف حِين هموا بالارتداد مَعَ من ارْتَدَّ من الْعَرَب بعد وَفَاة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا معشر ثَقِيف كُنْتُم آخر الْعَرَب إسلاما فَلَا تَكُونُوا أَوَّلهمْ ارْتِدَادًا» أَي دوموا على الْإِيمَان وَهُوَ عكس الْآيَة وَلَيْسَ المُرَاد كونُوا آخر النَّاس ارْتِدَادًا.
اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 461
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست