responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 419
بِمَا أَرَادَهُ مِنَ الْعُمْرَانِ بِجَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَشُعَبِهِ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَاطَ بِالنَّوْعِ الْبَشَرِيِّ إِتْمَامَ مُرَادِهِ مِنَ الْعَالَمِ فَكَانَ تَصَرُّفُ هَذَا النَّوْعِ فِي الْأَرْضِ قَائِمًا مَقَامَ مُبَاشَرَةِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا الْبَشَرُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْخِلَافَةَ لَا تَتَقَوَّمُ إِلَّا بِالْعِلْمِ أَعْنِي اكْتِسَابَ الْمَجْهُولِ مِنَ الْمَعْلُومِ وَتَحْقِيقَ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ وَمَوَاقِعِهَا وَمُقَارَنَاتِهَا وَهُوَ الْعِلْمُ الِاكْتِسَابِيُّ الَّذِي يُدْرِكُ بِهِ الْإِنْسَانُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَيَسْتَطِيعُ بِهِ فِعْلَ الْخَيْرِ وَفِعْلَ الشَّرِّ كُلٌّ فِي مَوْضِعِهِ وَلَا يَصْلُحُ لِهَذَا الْعِلْمِ إِلَّا الْقُوَّةُ النَّاطِقَةُ وَهِيَ قُوَّةُ التَّفْكِيرِ الَّتِي أَجْلَى مَظَاهِرِهَا مَعْرِفَةُ أَسْمَاءِ الْأَشْيَاءِ وَأَسْمَاءِ خَصَائِصِهَا وَالَّتِي تَسْتَطِيعُ أَنْ تُصْدِرَ الْأَضْدَادَ مِنَ الْأَفْعَالِ لِأَنَّ تِلْكَ الْقُوَّةَ هِيَ الَّتِي لَا تَنْحَصِرُ مُتَعَلَّقَاتُهَا وَلَا تَقِفُ مَعْلُومَاتُهَا كَمَا شُوهِدَ مِنْ أَحْوَالِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ مُنْذُ النَّشْأَةِ إِلَى الْآنَ وَإِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْمَلَائِكَةُ لَمَّا لَمْ يُخْلَقُوا مُتَهَيِّئِينَ لِذَلِكَ حَتَّى أَعْجَزَهُمْ وَضْعُ الْأَسْمَاءِ لِلْمُسَمَّيَاتِ وَكَانُوا مَجْبُولِينَ عَلَى سَجِيَّةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ سَجِيَّةُ الْخَيْرِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ وَلَا تَتَخَلَّفُ لَمْ يَكُونُوا مُؤَهَّلِينَ لِاسْتِفَادَةِ الْمَجْهُولَاتِ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ حَتَّى لَا تَقِفَ مَعَارِفُهُمْ. وَلَمْ يَكُونُوا مَصَادِرَ لِلشُّرُورِ الَّتِي يَتَعَيَّنُ صُدُورُهَا لإِصْلَاح الْعَالم فخيرتهم وَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً لِاسْتِقَامَةِ عَالَمِهِمُ الطَّاهِرِ لَمْ تَكُنْ صَالِحَةً لِنِظَامِ عَالَمٍ مَخْلُوطٍ، وَحِكْمَةُ خَلْطِهِ ظُهُورُ مُنْتَهَى الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ كَمَا قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ:
وَوَضْعُ النَّدَى فِي مَوْضِعِ السَّيْفِ بِالْعُلَا ... مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ فِي مَوْضِعِ النَّدَى
وَالْآيَةُ تَقْتَضِي مَزِيَّةً عُظْمَى لِهَذَا النَّوْعِ فِي هَذَا الْبَابِ وَفِي فَضْلِ الْعِلْمِ وَلَكِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ عَلَى الْمَلَائِكَةِ إِذِ الْمَزِيَّةُ لَا تَقْتَضِي الْأَفْضَلِيَّةَ كَمَا بَينه الشهَاب القراقي فِي الْفَرْقِ الْحَادِي وَالتِسْعِينَ فَهَذِهِ فَضِيلَةٌ مِنْ نَاحِيَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنَّمَا يَعْتَمِدُ التَّفْضِيلُ الْمُطْلَقُ مَجْمُوعَ الْفَضَائِلِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ مُوسَى وَالْخَضِرِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِلَخْ تَقْرِيرِيٌّ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ وَالْمَلَائِكَة لَا يَعْلَمُونَ وُقُوعَهُ وَلَا يُنْكِرُونَهُ. وَإِنَّمَا أَوْقَعَ الِاسْتِفْهَامَ عَلَى نَفْيِ الْقَوْلِ لِأَنَّ غَالِبَ الِاسْتِفْهَامِ التقريري يقحم فِيهِ مَا يُفِيدُ النَّفْيَ لِقَصْدِ التَّوْسِيعِ عَلَى الْمُقَرَّرِ حَتَّى يُخَيَّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ يُسْأَلُ عَنْ نَفْيِ وُقُوعِ الشَّيْءِ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَزْعُمَ نَفْيَهُ فَقَدْ وَسَّعَ الْمُقَرِّرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ إِنْكَارَهُ فَلِذَلِكَ يُقَرِّرُهُ عَلَى نَفْيِهِ، فَإِذَا أَقَرَّ كَانَ إِقْرَارُهُ لَازِمًا لَهُ لَا مَنَاصَ لَهُ مِنْهُ. فَهَذَا قَانُونُ الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ الْغَالِبُ عَلَيْهِ وَهُوَ الَّذِي تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنُُِ

اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 419
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست