responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 376
أَنَّ الْمَوْتَ هُوَ عَدَمُ اتِّصَافِ الْجِسْمِ بِالْحَيَاةِ سَوَاءً كَانَ مُتَّصِفًا بِهَا مِنْ قَبْلُ كَمَا هُوَ الْإِطْلَاقُ الْمَشْهُورُ فِي الْعُرْفِ أَمْ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِهَا إِذَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَّصِفَ بِهَا فَعَلَى هَذَا يُقَالُ لِلْحَيَوَانِ فِي أَوَّلِ تَكْوِينِهِ نُطْفَةً وَعَلَقَةً وَمُضْغَةً مَيِّتٌ لِأَنَّهُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَّصِفَ بِالْحَيَاةِ فَيَكُونُ إِطْلَاقُ الْأَمْوَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَيْهِمْ حِينَ كَانُوا غَيْرَ مُتَّصِفِينَ بِالْحَيَاةِ إِطْلَاقًا شَائِعًا وَالْمَقْصُودُ بِهِ التَّمْهِيدُ لِقَوْلِهِ:
فَأَحْياكُمْ ثُمَّ التَّمْهِيدُ وَالتَّقْرِيبُ لِقَوْلِهِ: ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ.
وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ الْمَوْتُ انْعِدَامُ الْحَيَاةِ بَعْدَ وُجُودِهَا وَهُوَ مُخْتَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَالسَّكَّاكِيِّ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَعَلَيْهِ فَإِطْلَاقُ الْأَمْوَاتِ عَلَيْهِمْ فِي الْحَالَةِ السَّابِقَةِ عَلَى حُلُولِ الْحَيَاةِ اسْتِعَارَةٌ. وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُ إِطْلَاقٌ شَائِعٌ فِي الْقُرْآنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَقِيقَةً فَهُوَ مَجَازٌ مَشْهُورٌ قَدْ سَاوَى الْحَقِيقَةَ وَزَالَ الِاخْتِلَافُ.
وَالْحَيَاةُ ضِدُّ الْمَوْتِ، وَهِيَ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ نَفْخُ الرُّوحِ فِي الْجِسْمِ. وَقَدْ تَعَسَّرَ تَعْرِيفُ الْحَيَاةِ أَوْ تَعْرِيفُ دَوَامِهَا عَلَى الْفَلَاسِفَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ تَعْرِيفًا حَقِيقِيًّا بِالْحَدِّ، وَأَوْضَحُ تَعَارِيفِهَا بِالرَّسْمِ أَنَّهَا قُوَّةٌ يَنْشَأُ عَنْهَا الْحِسُّ وَالْحَرَكَةُ وَأَنَّهَا مَشْرُوطَةٌ بِاعْتِدَالِ الْمِزَاجِ
وَالْأَعْضَاءِ الرَّئِيسِيَّةِ الَّتِي بِهَا تَدُومُ الدَّوْرَةُ الدَّمَوِيَّةُ، وَالْمُرَادُ بِالْمِزَاجِ التَّرْكِيبُ الْخَاصُّ الْمُنَاسِبُ مُنَاسِبَةً تَلِيقُ بِنَوْعٍ مَا مِنَ الْمُرَكَّبَاتِ الْعُنْصُرِيَّةِ وَذَلِكَ التَّرْكِيبُ يَحْصُلُ مِنْ تَعَادُلِ قُوًى وَأَجْزَاءٍ بِحَسَبِ مَا اقْتَضَتْهُ حَالَةُ الشَّيْءِ الْمُرَكَّبِ مَعَ انْبِثَاثِ الرُّوحِ الْحَيَوَانِيِّ، فَبِاعْتِدَالِ ذَلِكَ التَّرْكِيبِ يَكُونُ النَّوْعُ مُعْتَدِلًا وَلِكُلِّ صِنْفٍ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ مِزَاجٌ يَخُصُّهُ بِزِيَادَةِ تَرْكِيبٍ، وَلِكُلِّ شَخْصٍ مِنَ الصِّنْفِ مِزَاجٌ يَخُصُّهُ وَيَتَكَوَّنُ ذَلِكَ الْمِزَاجُ عَلَى النِّظَامِ الْخَاصِّ تَنْبَعِثُ الْحَيَاةُ فِي ذِي الْمِزَاجِ فِي إِبَّانِ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ وَهِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالرُّوحِ النَّفْسَانِيِّ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا التَّكْوِينِ
حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ»
فَأَشَارَ إِلَى حَالَاتِ التَّكْوِينِ الَّتِي بِهَا صَارَ الْمِزَاجُ مِزَاجًا مُنَاسِبًا حَتَّى انْبَعَثَتْ فِيهِ الْحَيَاةُ، ثُمَّ بِدَوَامِ انْتِظَامِ ذَلِكَ الْمِزَاجِ تَدُومُ الْحَيَاةُ وَبِاخْتِلَالِهِ تَزُولُ الْحَيَاةُ، وَذَلِكَ الِاخْتِلَالُ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْفَسَادِ، وَمِنْ أَعْظَمِ الِاخْتِلَالِ فِيهِ اخْتِلَالُ الرُّوحِ الْحَيَوَانِيِّ وَهُوَ الدَّمُ إِذَا اخْتَلَتْ دَوْرَتُهُ فَعَرَضَ لَهُ فَسَادٌ، وَبِعُرُوضِ حَالَةِ تَوَقُّفِ عَمَلِ الْمِزَاجِ وَتَعَطُّلِ آثَارِهِ يَصِيرُ الْحَيُّ شَبِيهًا بِالْمَيِّتِ كَحَالَةِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَحَالَةِ الْعُضْوِ الْمَفْلُوجِ، فَإِذَا انْقَطَعَ

اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 376
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست