responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 305
دَفَنُوا الْمَيِّتَ وَفَرَغُوا مِنْ مُوَارَاتِهِ التُّرَابَ ضَجَّ أُنَاسٌ بِقَوْلِهِمْ: «اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَةِ» فَقُلْتُ إِنَّ الَّذِينَ سَنُّوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ مَا أَرَادُوا إِلَّا تَنْظِيرَ هَيْئَةِ حَفْرِهِمْ لِلْمَيِّتِ بِهَيْئَةِ الَّذِينَ كَانُوا يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ كَانُوا يُكَرِّرُونَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ كَمَا وَرَدَ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ قَصْدًا مِنْ هَذَا التَّنْظِيرِ أَنْ يَكُونَ حَفْرُهُمْ ذَلِكَ شَبِيهًا بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ بِجَامِعِ رَجَاءِ الْقَبُولِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَذْكُرُوا مَا يدل على الشّبَه بِهِ وَلَكِنَّهُمْ طَوَوْهُ وَرَمَزُوا إِلَيْهِ بِمَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ الَّتِي عُرِفَ بِهَا وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيءِ تِلْكَ الْمَقَالَةَ ثُمَّ ظَفِرْتُ بِقَوْلِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ الْأَنْدَلُسِيِّ:
وَقُلْ لِمَنْ لَامَ فِي التَّصَابِي ... خَلِّ قَلِيلًا عَنِ الطَّرِيقِ
فَرَأَيْتُهُ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِيَّةِ الْمَكْنِيَّةِ فَإِنَّهُ حَذَفَ الْمُشَبَّهَ بِهِ وَهُوَ حَالُ الْمُتَعَرِّضِ لِسَائِرٍ فِي طَرِيقِهِ يَسُدُّهُ عَلَيْهِ وَيَمْنَعُهُ الْمُرُورَ بِهِ وَأَتَى بِشَيْءٍ مِنْ لَوَازِمِ هَذِهِ الْحَالَةِ وَهُوَ قَوْلُ السَّائِرِ لِلْمُتَعَرِّضِ: خَلِّ عَنِ الطَّرِيقِ.
رَابِعُهَا: تَمْثِيلِيَّةٌ تَبَعِيَّةٌ كَقَوْلِ أَبِي عَطَاءٍ السِّنْدِيِّ:
ذَكَرْتُكِ وَالْخَطِّيُّ يَخْطُرُ بَيْنَنَا ... وَقَدْ نَهِلَتْ مِنِّي الْمُثَقَّفَةُ السُّمَرُ
فَأَثْبَتَ النَّهَلَ لِلرِّمَاحِ تَشْبِيهًا لَهَا بِحَالَةِ النَّاهِلِ فِيمَا تُصِيبُهُ مِنْ دِمَاءِ الْجَرْحَى الْمَرَّةَ بَعْدَ الْأُخْرَى كَأَنَّهَا لَا يَرْوِيهَا مَا تُصِيبُهُ أَوَّلًا ثُمَّ أَتَى بِنَهِلَتْ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِيَّةِ، وَمِنْ هَذَا الْقسم عِنْد التفتازانيّ الِاسْتِعَارَةُ فِي (عَلَى) مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة:
5] وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ.
فَأَمَّا الْمَثَلُ الَّذِي هُوَ قَوْلٌ شُبِّهَ مَضْرِبُهُ بِمَوْرِدِهِ، وَهُوَ الَّذِي وَعَدْتُ بِذِكْرِهِ آنِفًا فَمَعْنَى تَشْبِيهِ مَضْرِبِهِ بِمَوْرِدِهِ أَنْ تَحْصُلَ حَالَةٌ لَهَا شَبَهٌ بِالْحَالَةِ الَّتِي صَدَرَ فِيهَا ذَلِكَ الْقَوْلُ فَيَسْتَحْضِرُ الْمُتَكَلِّمُ تِلْكَ الْحَالَةَ الَّتِي صَدَرَ فِيهَا الْقَوْلُ وَيُشَبِّهُ بِهَا الْحَالَةَ الَّتِي عَرَضَتْ وَيَنْطِقُ بِالْقَوْلِ الَّذِي كَانَ صَدَرَ فِي أَثْنَاءِ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا لِيُذَكِّرَ السَّامِعَ بِتِلْكَ الْحَالَةِ، وَبِأَنَّ حَالَةَ الْيَوْمِ شَبِيهَةٌ بِهَا وَيُجْعَلُ عَلَامَةَ ذِكْرِ ذَلِكَ الْقَوْلِ الَّذِي قِيلَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَإِذَا حَقَّقْتِ التَّأَمُّلَ وَجَدْتَ هَذَا الْعَمَلَ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ الْمَكْنِيَّةِ لِأَجْلِ كَوْنِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ الْمُسَمَّاةِ بِالْأَمْثَالِ قَدْ سَارَتْ وَنُقِلَتْ بَيْنَ الْبُلَغَاءِ فِي تِلْكَ الْحَوَادِثِ فَكَانَتْ مِنْ لَوَازِمِ الْحَالَاتِ الْمُشَبَّهِ بِهَا لَا مَحَالَةَ لِمُقَارَنَتِهَا لَهَا فِي أَذْهَانِ النَّاسِ فَهِيَُُ

اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 305
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست