responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 253
وَاخْتِلَافِ هَاتِهِ الْإِطْلَاقَاتِ مَقَالَاتٌ مَلَأَتِ الْفَضَاءَ، وَكَانَتْ لِلْمُخَالِفِينَ كَحَجَرِ الْمَضَاءِ، فَلَمَّا قَيَّضَ اللَّهُ أَعْلَامًا نَفَوْا مَا شَاكَهَا، وَفَتَحُوا أَغْلَاقَهَا، تَبَيَّنَ أَنَّ الْجَوَازَ الْإِمْكَانِيَّ فِي الْجَمِيعِ ثَابِتٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لَوْ شَاءَ، لَا يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ مُسْلِمٌ. وَثَبَتَ أَنَّ الْجَوَازَ الْمُلَائِمَ لِلْحِكْمَةِ مُنْتَفٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِنِ اخْتَلَفْنَا فِي تَفْسِيرِ الْحِكْمَةِ لِاتِّفَاقِ الْكُلِّ عَلَى أَنَّ فَائِدَةَ التَّكْلِيفِ تَنْعَدِمُ إِذَا كَانَ الْمُكَلَّفُ بِهِ مُتَعَذَّرَ الْوُقُوعِ. وَثَبَتَ أَنَّ الْمُمْتَنِعَ لِتَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ مُكَلَّفٌ بِهِ جَوَازًا وَوُقُوعًا، وَجُلُّ التَّكَالِيفِ لَا تَخْلُو مِنْ ذَلِكَ، وَثَبَتَ مَا هُوَ أَخَصُّ وَهُوَ رَفْعُ الْحَرَجِ الْخَارِجِيِّ عَنِ الْحَدِّ الْمُتَعَارَفِ، تُفَضُّلًا مِنَ اللَّهِ لِقَوْلِهِ: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الْحَج: 78] وَقَوْلِهِ:
عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ [المزمل: 20] أَيْ لَا تُطِيقُونَهُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» .
هَذَا مِلَاكُ هَاتِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى وَجْهٍ يَلْتَئِمُ بِهِ مُتَنَاثِرُهَا، وَيُسْتَأْنَسُ مُتَنَافِرُهَا. وَبَقِيَ أَنْ نُبَيِّنَ لَكُمْ وَجْهَ تَعَلُّقِ التَّكْلِيفِ بِمَنْ عَلِمَ اللَّهُ عَدَمَ امْتِثَالِهِ أَوْ بِمَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَا يَمْتَثِلُ كَمَا فِي هَاتِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ أَخَصُّ مِنْ مَسْأَلَةِ الْعِلْمِ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ إِذْ قَدِ انْضَمَّ الْإِخْبَارُ إِلَى الْعِلْمِ كَمَا هُوَ وَجْهُ اسْتِدْلَالِ الْمُسْتَدِلِّ بِهَا، فَالْجَوَابُ أَنَّ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ عَدَمَ فِعْلِهِ لَمْ يُكَلِّفْهُ بِخُصُوصِهِ وَلَا وَجَّهَ لَهُ دَعْوَةً تَخُصُّهُ إِذْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّ أَفْرَادًا بِالدَّعْوَةِ إِلَّا وَقَدْ آمَنُوا كَمَا خَصَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ جَاءَهُ،
بِقَوْلِهِ: «أَمَا آنَ لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَنْ تَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»
وَقَوْلِهِ لِأَبِي سُفْيَانَ يَوْمَ الْفَتْحِ قَرِيبًا مِنْ تِلْكُمُ الْمَقَالَةِ، وَخَصَّ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ بِمِثْلِهَا، وَلَمْ تَكُنْ يَوْمَئِذٍ قَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَلَمَّا كَانَتِ الدَّعْوَةُ عَامَّةً وَهُمْ شَمِلَهُمُ الْعُمُومُ بَطُلَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ وَبِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَن يُقَال لماذَا لَمْ يُخَصَّصْ مَنْ عُلِمَ عَدَمُ امْتِثَالِهِ مِنْ عُمُومِ الدَّعْوَةِ، وَدَفْعُ ذَلِكَ أَنَّ تَخْصِيصَ هَؤُلَاءِ يُطِيل الشَّرِيعَة ويجرىء غَيْرَهُمْ وَيُضْعِفُ إِقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَيُوهِمُ عَدَمَ عُمُومِ الرِّسَالَةِ، عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ الْفَصْلَ بَيْنَ مَا فِي قَدَرِهِ وَعِلْمِهِ، وَبَيْنَ مَا يَقْتَضِيهِ التَّشْرِيعُ وَالتَّكْلِيفُ، وَسِرُّ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ بَيَّنَاهُ فِي مَوَاضِعَ يَطُولُ الْكَلَامُ بِجَلْبِهَا وَيَخْرُجُ مِنْ غَرَضِ التَّفْسِيرِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ تَفَطُّنَكُمْ إِلَى مُجْمَلِهِ لَيْسَ بعسير.

اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 253
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست