responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 245
تَفَاوَتَتِ الْبُلَغَاءُ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَبْحَثِ تَعْرِيفِ الْبَلَاغَةِ وَحَدُّ الْإِعْجَازِ هُوَ الطَّرَفُ الْأَعْلَى لِلْبَلَاغَةِ الْجَامِعُ لِأَقْصَى الْخُصُوصِيَّاتِ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ فَلَمَّا وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ وَالْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا شَيْئَانِ يَصْلُحَانِ لِأَنْ يُشَبَّهَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ تَشْبِيهًا مُسْتَقِلًّا غَيْرَ دَاخِلٍ فِي تَشْبِيهِ الْهَيْئَةِ كَانَ حَقُّ هَذَا الْمَقَامِ تَشْبِيهُ التَّمَكُّنِ بِالِاسْتِعْلَاءِ وَهُوَ تَشْبِيهٌ بَدِيعٌ وَأُشِيرَ إِلَيْهِ بِكَلِمَةِ عَلَى وَأَمَّا غَيْرُ هَذَيْنِ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَيْأَتَيْنِ فَلَمَّا لَمْ يَحْسُنْ تَشْبِيهُ شَيْءٍ مِنْهَا بِآخَرَ أُلْغِيَ التَّشْبِيهُ الْمُفْرَدُ فِيهَا إِذْ لَا يَحْسُنُ تَشْبِيهُ الْمُتَّقِي بِخُصُوصِ الرَّاكِبِ وَلَا الْهُدَى بِالْمَرْكُوبِ فَتَكُونُ «عَلَى» عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بَعْضًا مِنَ الْمَجَازِ الْمُرَكَّبِ دَلِيلًا عَلَيْهِ بِاعْتِبَارٍ وَمَجَازًا مُفْرَدًا بِاعْتِبَارٍ آخَرَ.
وَالَّذِي أَخْتَارُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ مَكْنِيَّةٌ شَبَّهَتِ الْحَالَةَ بِالْحَالَةِ وَحُذِفَ لَفْظُ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَهُوَ الْمَرْكَبُ الدَّالُّ عَلَى الرُّكُوبِ كَأَنْ يُقَالَ رَاكِبِينَ مَطِيَّةَ الْهُدَى وَأَبْقَى مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُشَبَّهِ وَهُوَ أُولئِكَ وَالْهُدَى، وَرَمْزٌ لِلْمَرْكَبِ الدَّالِّ عَلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ بِشَيْءٍ مِنْ لَوَازِمِهِ وَهُوَ لَفْظُ (عَلَى) الدَّالُّ عَلَى الرُّكُوبِ عُرْفًا كَمَا عَلِمْتُمْ، فَتَكْمُلُ لَنَا فِي أَقْسَامِ التَّمْثِيلِيَّةِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ: الِاسْتِعَارَةُ كَمَا فِي الِاسْتِعَارَةِ الْمُفْرَدَةِ فَيَكُونُ التَّمْثِيلُ مِنْهُ مَجَازٌ مُرْسَلٌ كَاسْتِعْمَالِ الْخَبَرِ فِي التَّحَسُّرِ وَمِنْهُ اسْتِعَارَةٌ مُصَرَّحَةٌ نَحْوَ أَرَاكَ تُقَدِّمُ رِجْلًا وَتُؤَخِّرُ أُخْرَى وَمِنْهُ مَكْنِيَّةٌ كَمَا فِي الْآيَةِ عَلَى رَأْيِنَا، وَمِنْهُ تَبَعِيَّةٌ كَمَا فِي قَوْلِ الْحَمَاسِيِّ:
وَفَارِسٍ فِي غِمَارِ الْمَوْتِ مُنْغَمِسٍ ... إِذَا تَأَلَّى عَلَى مَكْرُوهَةٍ صَدَقَا

فَإِنَّ مُنْغَمِسٍ تَمْثِيلٌ لِهَيْئَةِ إِحَاطَةِ أَسْبَابِ الْمَوْتِ بِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ بِهَيْئَةِ مَنْ أَحَاطَتْ بِهِ الْمِيَاهُ الْمُهْلِكَةُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَلَفْظُ مُنْغَمِسٍ تَبَعِيَّةٌ لَا مَحَالَةَ.
وَإِنَّمَا نُكِّرَ هُدًى وَلَمْ يُعَرَّفْ بِاللَّامِ لِمُسَاوَاةِ التَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ هُنَا إِذْ لَوْ عُرِّفَ لَكَانَ التَّعْرِيفُ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ فَرَجَّحَ التَّنْكِيرَ تَمْهِيدًا لِوَصْفِهِ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ، فَهُوَ مُغَايِرٌ لِلْهُدَى السَّابِقِ فِي قَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ مُغَايَرَةً بِالِاعْتِبَارِ إِذِ الْقَصْدُ التَّنْوِيهُ هُنَا بِشَأْنِ الْهُدَى وَتَوَسُّلًا إِلَى إِفَادَةِ تَعْظِيمِ الْهُدَى بِقَرِينَةِ مَقَامِ الْمَدْحِ وَبِذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّمَكُّنِ فَتَعَيَّنَ قَصْدُ التَّعْظِيمِ. فَقَوْلُهُ: مِنْ رَبِّهِمْ تَنْوِيهٌ بِهَذَا الْهُدَى يَقْتَضِي تَعْظِيمَهُ وَكُلُّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى تَعْظِيمِ الْمُتَّصِفِينَ بِالتَّمَكُّنِ مِنْهُ.
وَإِنَّمَا وَصَفَ الْهُدَى بِأَنَّهُ مِنْ رَبِّهِمْ لِلتَّنْوِيهِ بِذَلِكَ الْهُدَى وَتَشْرِيفِهِ مَعَ الْإِشَارَةٍ بِأَنَّهُمْ بِمَحَلِّ الْعِنَايَةِ مِنَ اللَّهِ وَكَذَلِكَ إِضَافَةُ الرَّبِّ إِلَيْهِمْ هِيَ إِضَافَةُ تَعْظِيمٍ لِشَأْنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ
بِالْقَرِينَةِ.

اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 245
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست