responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 229
بَنِي حَنِيفَةَ مُضْمِرَ الْعَدَاءِ طَامِعًا فِي الْمُلْكِ هُوَ مِنْ غَيْرِ الْمُتَّقِينَ. وَفَرِيقٌ آخَرُ يَجِيءُ ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ:
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الْبَقَرَة: 4] الْآيَاتِ.
وَقَدْ أُجْرِيَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ لِلثَّنَاءِ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا بَعْدَ الْإِشْرَاكِ بِأَنْ كَانَ رَائِدُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ هُوَ التَّقْوَى وَالنَّظَرُ فِي الْعَاقِبَةِ، وَلِذَلِكَ وَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أَيْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِالْبَعْثِ وَالْمَعَادِ كَمَا حَكَى عَنْهُمُ الْقُرْآنُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَلِذَلِكَ اجْتُلِبَتْ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِهَذِهِ الصِّلَاتِ الثَّلَاثِ صِيغَةُ الْمُضَارِعِ الدَّالَّةُ عَلَى التَّجَدُّدِ إِيذَانًا بِتَجَدُّدِ إِيمَانِهِمْ بِالْغَيْبِ وَتَجَدُّدِ إِقَامَتِهِمُ الصَّلَاةَ وَالْإِنْفَاقَ إِذْ لَمْ يَكُونُوا مُتَّصِفِينَ بِذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ جَاءَهُمْ هُدَى الْقُرْآنِ.
وَجَوَّزَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» كَوْنَهُ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا مُبْتَدَأً وَكَوْنَ: أُولئِكَ عَلى هُدىً [الْبَقَرَة: 5] خَبَرَهُ. وَعِنْدِي أَنَّهُ تَجْوِيزٌ لِمَا لَا يَلِيقُ، إِذِ الِاسْتِئْنَافُ يَقْتَضِي الِانْتِقَالَ مِنْ غَرَضٍ إِلَى آخَرَ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالِاقْتِضَابِ وَإِنَّمَا يَحْسُنُ فِي الْبَلَاغَةِ إِذَا أُشِيعَ الْغَرَضُ الْأَوَّلُ وَأُفِيضَ فِيهِ حَتَّى أُوعِبَ أَوْ حَتَّى خِيفَتْ سَآمَةُ السَّامِعِ، وَذَلِكَ مَوْقِعُ أَمَّا بَعْدُ أَوْ كَلِمَةُ هَذَا وَنَحْوُهُمَا، وَإِلَّا كَانَ تَقْصِيرًا مِنَ الْخَطِيبِ وَالْمُتَكَلِّمِ لَا سِيَّمَا وَأُسْلُوبُ الْكِتَابِ أَوْسَعُ مِنْ أُسْلُوبِ الْخَطَابَةِ لِأَنَّ الْإِطَالَةَ فِي أَغْرَاضِهِ أَمْكَنُ.
وَالْغَيْبُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْغَيْبَةِ: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يُوسُف: 52] لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ [الْمَائِدَة: 94] وَرُبَّمَا قَالُوا بِظَهْرِ الْغَيْبِ قَالَ الْحُطَيْئَةُ:
كَيْفَ الْهِجَاءُ وَمَا تَنْفَكُّ صَالِحَةٌ ... مِنْ آلِ لَامَ بِظَهْرِ الْغَيْبِ تَأْتِينِي
وَفِي الْحَدِيثِ: «دَعْوَةُ الْمُؤْمِنِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ»
. وَالْمُرَادُ بِالْغَيْبِ مَا لَا
يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ مِمَّا أَخْبَرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرِيحًا بِأَنَّهُ وَاقِعٌ أَوْ سَيَقَعُ مِثْلَ وُجُودِ اللَّهِ، وَصِفَاتِهِ، وَوُجُودِ الْمَلَائِكَةِ، وَالشَّيَاطِينِ، وَأَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَمَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ. فَإِنْ فَسَّرَ الْغَيْبَ بِالْمَصْدَرِ أَيِ الْغِيبَةِ كَانَتِ الْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا فَالْوَصْفُ تَعْرِيضٌ بِالْمُنَافِقِينَ، وَإِنْ فَسَّرَ الْغَيْبَ بِالِاسْمِ وَهُوَ مَا غَابَ عَنِ الْحِسِّ مِنَ الْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ، كَانَتِ الْبَاءُ مُتَعَلِّقَةً بِيُؤْمِنُونَ، فَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ مِنْ غَيْرِ عَالَمِ الشَّهَادَةِ كَالْإِيمَانِ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْبَعْثِ وَالرُّوحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَفِي حَدِيثِ الْإِيمَانِ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»
. وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ عَوَالِمِ الْغَيْبِ.
كَانَ الْوَصْفُ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَقَالُوا: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [سبأ: 7] فَجَمَعَ هَذَا الْوَصْفَ بِالصَّرَاحَةِ ثَنَاءً عَلَى الْمُؤْمِنِينَُُ،

اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 229
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست