responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 122
وَلَوْلَا إِيجَازُ الْقُرْآنِ لَكَانَ مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ الْمَعَانِي فِي أَضْعَافِ مِقْدَارِ الْقُرْآنِ، وَأَسْرَارُ التَّنْزِيلِ وَرُمُوزُهُ فِي كُلِّ بَابٍ بَالِغَةٌ مِنَ اللُّطْفِ وَالْخَفَاءِ حَدًّا يَدِقُّ عَنْ تَفَطُّنِ الْعَالِمِ وَيَزِيدُ عَنْ تَبَصُّرِهِ، وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 14] .
إِنَّكَ تَجِدُ فِي كَثِيرٍ مِنْ تَرَاكِيبِ الْقُرْآنِ حَذْفًا وَلَكِنَّكَ لَا تَعْثُرُ عَلَى حَذْفٍ يَخْلُو الْكَلَامُ مِنْ دَلِيلٍ عَلَيْهِ مِنْ لَفْظٍ أَوْ سِيَاقٍ، زِيَادَةً عَلَى جَمْعِهِ الْمَعَانِيَ الْكَثِيرَةَ فِي الْكَلَامِ الْقَلِيلِ، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ: «الْحَذْفُ وَالِاخْتِصَارُ هُوَ نَهْجُ التَّنْزِيلِ» قَالَ بَعْضُ بَطَارِقَةِ الرُّومِ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ. [النُّور: 52] «قَدْ جَمَعَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا أَنْزَلَ عَلَى عِيسَى مِنْ أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ [الْقَصَص: 7] الْآيَةَ، جَمَعَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ وَنَهْيَيْنِ وَبِشَارَتَيْنِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [الْبَقَرَة: 179] مُقَابِلًا أَوْجَزَ كَلَامَ عُرِفَ عِنْدَهُمْ وَهُوَ «الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ» وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي [هود: 44] وَلَقَدْ بَسَّطَ السَّكَّاكِيُّ فِي «الْمِفْتَاحِ» آخِرَ قِسْمِ الْبَيَانِ نَمُوذَجًا مِمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ،
وَتَصَدَّى أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى «إِعْجَازَ الْقُرْآنِ» إِلَى بَيَانِ مَا فِي سُورَةِ النَّمْلِ مِنَ الْخَصَائِصِ فَارْجِعْ إِلَيْهِمَا.
وَأَعُدُّ مِنْ أَنْوَاعِ إِيجَازِهِ إِيجَازَ الْحَذْفِ مَعَ عَدَمِ الِالْتِبَاسِ، وَكَثُرَ ذَلِكَ فِي حَذْفِ الْقَوْلِ، وَمِنْ أَبْدَعِ الْحَذْفِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر: 40- 43] أَيْ يَتَذَاكَرُونَ شَأْنَ الْمُجْرِمِينَ فَيَقُولُ مَنْ عَلِمُوا شَأْنَهُمْ سَأَلْنَاهُمْ فَقُلْنَا مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» قَوْلُهُ: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ لَيْسَ بِبَيَانٍ لِلتَّسَاؤُلِ عَنْهُمْ وَإِنَّمَا هُوَ حِكَايَةُ قَوْلِ الْمَسْئُولِينَ، أَيْ أَنَّ الْمَسْئُولِينَ يَقُولُونَ لِلسَّائِلِينَ قُلْنَا لَهُمْ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ اهـ.
وَمِنْهُ حَذْفُ الْمُضَافِ كَثِيرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ. [الْبَقَرَة: 177] وَحَذْفُ الْجُمَلِ الَّتِي يَدُلُّ الْكَلَامُ عَلَى تَقْدِيرِهَا نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشُّعَرَاء: 63] إِذِ التَّقْدِيرُ فَضَرَبَ فَانْفَلَقَ. وَمِنْ ذَلِكَ الْإِخْبَارُ عَنْ أَمْرٍ خَاصٍّ بِخَبَرٍ يَعُمُّهُ وَغَيْرَهُ لِتَحْصُلَ فَوَائِدُ: فَائِدَةُ الْحُكْمِ الْعَامِّ، وَفَائِدَةُ الْحُكْمِ الْخَاصِّ، وَفَائِدَةُ أَنَّ هَذَا الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ بِالْحُكْمِ الْخَاصِّ هُوَ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِالْحُكْمِ الْعَامِّ.
وَقَدْ تَتَبَّعْتُ أَسَالِيبَ مِنْ أَسَالِيبِ نَظْمِ الْكَلَامِ فِي الْقُرْآنِ فَوَجَدْتُهَا مِمَّا لَا عَهْدَ بِمِثْلِهَا فِي

اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 122
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست