responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 120
مبتكرات الْقُرْآن هَذَا وَلِلْقُرْآنِ مُبْتَكَرَاتٌ تَمَيَّزَ بِهَا نَظْمُهُ عَنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ الْعَرَبِ.
فَمِنْهَا أَنَّهُ جَاءَ عَلَى أُسْلُوبٍ يُخَالِفُ الشِّعْرَ لَا مَحَالَةَ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ الْمُتَقَدِّمُونَ، وَأَنَا أَضُمُّ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ أسلوبه يُخَالف أسلوب الْخَطَابَةَ بَعْضَ الْمُخَالَفَةِ، بَلْ جَاءَ بِطَرِيقَةِ كِتَابٍ يُقْصَدُ حِفْظُهُ وَتِلَاوَتُهُ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِهِ إِذْ كَانَ نَظْمُهُ عَلَى طَرِيقَةٍ مُبْتَكَرَةٍ لَيْسَ فِيهَا اتِّبَاعٌ لِطَرَائِقِهَا الْقَدِيمَةِ فِي الْكَلَامِ.
وَأَعُدُّ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ جَاءَ بِالْجُمَلِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعَانٍ مُفِيدَةٍ مُحَرَّرَةً، شَأْنَ الْجُمَلِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْقَوَاعِدِ التَّشْرِيعِيَّةِ، فَلم يَأْتِ بعمومات شَأْنُهَا التَّخْصِيصُ غَيْرَ مَخْصُوصَةٍ، وَلَا بِمُطْلَقَاتٍ تَسْتَحِقُّ التَّقْيِيدَ غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ الْعَرَبُ لِقِلَّةِ اكْتِرَاثِهِمْ بِالْأَحْوَالِ الْقَلِيلَةِ وَالْأَفْرَادِ النَّادِرَةِ، مِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ [النِّسَاء: 95] وَقَوْلُهُ: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ [الْقَصَص:
50] فَبَيَّنَ أَنَّ الْهَوَى قَدْ يَكُونُ مَحْمُودًا إِذا كَانَ هوى الْمَرْءِ عَنْ هُدًى، وَقَوْلُهُ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [الْعَصْر: 2، 3] .
وَمِنْهَا أَنْ جَاءَ عَلَى أُسْلُوبِ التَّقْسِيمِ وَالتَّسْوِيرِ وَهِيَ سُنَّةٌ جَدِيدَةٌ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ أَدْخَلَ بِهَا عَلَيْهِ طَرِيقَةَ التَّبْوِيبِ وَالتَّصْنِيفِ وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَيْهَا فِي «الْكَشَّافِ» إِيمَاءً.
وَمِنْهَا الْأُسْلُوبُ الْقَصَصِيُّ فِي حِكَايَةِ أَحْوَالِ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَفِي تَمْثِيلِ الْأَحْوَالِ، وَقَدْ كَانَ لِذَلِكَ تَأْثِيرٌ عَظِيمٌ عَلَى نُفُوسِ الْعَرَبِ إِذْ كَانَ فَنُّ الْقَصَصِ مَفْقُودًا مِنْ أَدَبِ الْعَرَبِيَّةِ إِلَّا نَادِرًا، كَانَ فِي بَعْضِ الشِّعْرِ كَأَبْيَاتِ النَّابِغَةِ فِي الْحَيَّةِ الَّتِي قَتَلَتِ الرَّجُلَ وَعَاهَدَتْ أَخَاهُ وَغَدَرَ بِهَا، فَلَمَّا جَاءَ الْقُرْآنُ بِالْأَوْصَافِ بُهِتَ بِهِ الْعَرَبُ كَمَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [44] مِنْ وَصْفِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَأَهْلِ الْأَعْرَافِ: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ إِلَخْ وَفِي سُورَةِ الْحَدِيدِ [13] : فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ الْآيَاتِ.
وَمِمَّا يَتْبَعُ هَذَا أَنَّ الْقُرْآنَ يَتَصَرَّفُ فِي حِكَايَةِ أَقْوَالِ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمْ فَيَصُوغُهَا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ أُسْلُوبُ إِعْجَازِهِ لَا عَلَى الصِّيغَةِ الَّتِي صَدَرَتْ فِيهَا، فَهُوَ إِذَا حَكَى أَقْوَالًا غَيْرَ عَرَبِيَّةٍ صَاغَ مَدْلُولَهَا فِي صِيغَةٍ تَبْلُغُ حَدَّ الْإِعْجَازِ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَإِذَا حَكَى أَقْوَالًا عَرَبِيَّةً تَصَرَّفَ فِيهَا تَصَرُّفًا يُنَاسِبُ أُسْلُوبَ الْمُعَبِّرِ مِثْلَ مَا يَحْكِيهِ عَنِ الْعَرَبِ فَإِنَّهُ لَا يَلْتَزِمُ حِكَايَةَ أَلْفَاظِهِمْ بَلْ يَحْكِي

اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 120
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست