responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 105
وَقَدْ عَدَّ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ مَا يُعَدُّ جِهَةً رَابِعَةً هِيَ مَا انْطَوَى
عَلَيْهِ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ مِمَّا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عَلَّامِ الْغُيُوبِ، وَقَدْ يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ مَا عَدَّهُ عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ» وَجْهًا رَابِعًا مِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَهُوَ مَا أَنْبَأَ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْقُرُونِ السَّالِفَةِ مِمَّا كَانَ لَا يَعْلَمُ مِنْهُ الْقِصَّةَ الْوَاحِدَةَ إِلَّا الْفَذُّ مِنْ أَحْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَهَذَا مُعْجِزٌ لِلْعَرَبِ الْأُمِّيِّينَ خَاصَّةً وَلَيْسَ مُعْجِزًا لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَخَاصٌّ ثُبُوتُ إِعْجَازِهِ بِأَهْلِ الْإِنْصَافِ مِنَ النَّاظِرِينَ فِي نَشْأَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحْوَالِهِ، وَلَيْسَ مُعْجِزًا لِلْمُكَابِرِينَ فَقَدْ قَالُوا إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النَّحْل: 103] .
فَإِعْجَازُ الْقُرْآنِ مِنَ الْجِهَتَيْنِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْعَرَبِ، إِذْ هُوَ مُعْجِزٌ لِفُصَحَائِهِمْ وَخُطَبَائِهِمْ وَشُعَرَائِهِمْ مُبَاشَرَةً، وَمُعْجِزٌ لِعَامَّتِهِمْ بِوَاسِطَةِ إِدْرَاكِهِمْ أَنَّ عَجْزَ مُقَارِعِيهِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ مَعَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي عَلَيْهِ هُوَ بُرْهَانٌ سَاطِعٌ عَلَى أَنَّهُ تَجَاوَزَ طَاقَةَ جَمِيعِهِمْ. ثُمَّ هُوَ بِذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ لَدَى بَقِيَّةِ الْبَشَرِ الَّذِينَ بَلَغَ إِلَيْهِمْ صَدَى عَجْزِ الْعَرَبِ بُلُوغًا لَا يُسْتَطَاعُ إِنْكَارُهُ لِمُعَاصِرِيهِ بِتَوَاتُرِ الْأَخْبَارِ، وَلِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ بِشَوَاهِدِ التَّارِيخِ.
فَإِعْجَازُهُ لِلْعَرَبِ الْحَاضِرِينَ دَلِيلٌ تَفْصِيلِيٌّ، وَإِعْجَازُهُ لِغَيْرِهِمْ دَلِيلٌ إِجْمَالِيٌّ.
ثُمَّ قَدْ يُشَارِكُ خَاصَّةً الْعَرَبَ فِي إِدْرَاكِ إِعْجَازِهِ كُلُّ مَنْ تَعَلَّمَ لُغَتَهُمْ وَمَارَسَ بَلِيغَ كَلَامِهِمْ وَآدَابِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْبَلَاغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي مُخْتَلِفِ الْعُصُورِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ السَّكَّاكِيِّ فِي «الْمِفْتَاحِ» مُخَاطِبًا لِلنَّاظِرِ فِي كِتَابِهِ «مُتَوَسِّلًا بِذَلِكَ (أَيْ بِمَعْرِفَةِ الْخَصَائِصِ الْبَلَاغِيَّةِ الَّتِي هُوَ بِصَدَدِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ تَتَأَنَّقَ فِي وَجْهِ الْإِعْجَازِ فِي التَّنْزِيلِ مُنْتَقِلًا مِمَّا أَجْمَلَهُ عَجْزُ الْمُتَحَدَّيْنَ بِهِ عِنْدَكَ إِلَى التَّفْصِيلِ» .
وَالْقُرْآنُ مُعْجِزٌ مِنِ الْجِهَةِ الثَّالِثَةِ لِلْبَشَرِ قَاطِبَةً إِعْجَازًا مُسْتَمِرًّا عَلَى مَمَرِّ الْعُصُورِ، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا شَمِلَهُ قَوْلُ أَئِمَّةِ الدِّينِ: إِنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْمُعْجِزَةُ الْمُسْتَمِرَّةُ عَلَى تَعَاقُبِ السِّنِينَ، لِأَنَّهُ قَدْ يُدْرِكُ إِعْجَازَهُ الْعُقَلَاءُ مِنْ غَيْرِ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ بِوَاسِطَةِ تَرْجَمَةِ مَعَانِيهِ التَّشْرِيعِيَّةِ وَالْحِكَمِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِيَّةِ، وَهُوَ دَلِيلٌ تَفْصِيلِيٌّ لِأَهْلِ تِلْكَ الْمَعَانِي وَإِجْمَالِيٌّ لِمَنْ تَبْلُغُهُ شَهَادَتُهُمْ بِذَلِكَ.
وَهُوَ مِنَ الْجِهَةِ الرَّابِعَةِ- عِنْدَ الَّذِينَ اعْتَبَرُوهَا زَائِدَةً عَلَى الْجِهَاتِ الثَّلَاثِ- مُعْجِزٌ لِأَهْلِ عَصْرِ نُزُولِهِ إِعْجَازًا تَفْصِيلِيًّا، ومعجز لمن يجيىء بَعْدَهُمْ مِمَّنْ يَبْلُغُهُ ذَلِكَ بِسَبَبِ تَوَاتُرِ نَقْلِ الْقُرْآنِ، وَتَعَيُّنِ صَرْفِ الْآيَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى هَذَا الْإِخْبَارِ إِلَى مَا أُرِيدَ مِنْهَا.

اسم الکتاب : التحرير والتنوير المؤلف : ابن عاشور    الجزء : 1  صفحة : 105
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست