كما جاء في الرواية: " ويؤمنوا بي وبما جئت به ".
وقال شيخ الإسلام لما سئل عن قتال التتار فقال: "كل طائفة ممتنعة عن التزام شرائع الإسلام الظاهرة من هؤلاء القوم أو غيرهم؛ فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين وملتزمين بعض شرائعه؛ كما قاتل أبو بكر والصحابة - رضي الله عنهم - مانعي الزكاة، وعلى هذا اتفق الفقهاء بعدهم. قال: فأيما طائفة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء، أو الأموال، أو الخمر أو الميسر، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو غير ذلك من التزام واجبات الدين ومحرماته التي لا عذر لأحد
ومنها: قول الخليل - عليه السلام – للكفار: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي} [1] فاستثنى من المعبودين ربه، وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة: هي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله فقال: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [2].
ومنها: آية البقرة في الكفار الذين قال فيهم: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [3] ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله، [4] فدل على أنهم يحبون الله حبا عظيما ولم يدخلهم في الإسلام. فكيف بمن أحب الند أكبر[5] من حب الله؟ فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده؟ ولم يحب الله؟ في جحودها أو تركها، التي يكفر الواحد بجحودها. فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء. قال: وهؤلاء عند المحققين ليسوا بمنزلة البغاة، بل هم خارجون عن الإسلام". انتهى.
قوله: "وحسابه على الله" أي الله تبارك وتعالى هو الذي يتولى حساب الذي يشهد بلسانه بهذه الشهادة، فإن كان صادقا جازاه بجنات النعيم، وإن كان منافقا عذبه العذاب الأليم. وأما في الدنيا فالحكم على الظاهر، فمن أتى بالتوحيد ولم يأت بما ينافيه ظاهرا والتزم شرائع الإسلام وجب الكف عنه.
قلت: وأفاد الحديث أن الإنسان قد يقول: "لا إله إلا الله" ولا يكفر بما يعبدون
ومنها: قوله صلي الله عليه وسلم: " من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله " [6] وهذا من أعظم ما يبين معنى: " لا إله إلا الله" فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للذم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله. فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه.
فيا لها من مسألة ما أعظمها وأجلها! ويا له من بيان ما أوضحه، وحجة ما أقطعها للمنازع!.
من دون الله فلم يأت بما يعصم دمه وماله كما دل على ذلك الآيات المحكمات والأحاديث.
قوله: "وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب"[7] قلت: وذلك أن ما بعدها [1] سورة الزخرف آية: 26-27. [2] سورة الزخرف آية: 28. [3] سورة البقرة آية: 167. [4] الظاهر أن المعنى: أنهم يحبون أندادهم من جنس حب الله الذي هو حب التعظيم والذل والخضوع؛ لأنه ليس كل حب يكون عبادة حتى يكون فيه تعظيم وخضوع. ولذلك قال: "كحب الله" ولم يقل: كحبهم لله. فهم في الوقت الذي يحبونهم أعظم الحب, يخافونهم أشد الخوف، معتقدين أنهم يخلفون عليهم خيرا مما ينذرونه لهم، ويذبحونه لهم من طيب مالهم ويرجون منهم المساعدة والمعونة على كشف الضر ودفع البأساء, ويحذرون انتقامهم بحرق زرعهم وإهلاك أولادهم وأنفسهم, ويروون عن سدنتهم روايات مكذوبة في تأييد دعاويهم تهويلا عليهم وتمكينا للضلال والشرك من أنفسهم، فهم لا يرجون لله وقارا كما يرجون لهم، ولا يخشون الله كما يخشونهم. فتجرد أنفسهم بسخاء في سبيل التقرب إلى أولئك الموتى من أوليائهم بما لا تجود بعشره في سبيل الله; برا للوالدين أو صلة للأرحام أو إطعاما لجار بائس, أو مسكين من أهل قريته. هذا شأن عباد القبور والموتى اليوم. دقق في أحوالهم وطبقها على آيات المشركين في القرآن تجدهم زادوا على مشركي الجاهلية الأولى. والله المستعان, ولا حول ولا قوة إلا بالله. [5] إن من تحقق محبة مشركي زماننا لآلهتهم التي يسمونها بالأولياء يعلم يقينا أنهم يحبونها أكثر من محبتهم لله؟ ويتصدقون لوجوهها بما لا يقدرون أن يتصدقوا بعشره لوجه الله. [6] مسلم: الإيمان (23) , وأحمد (3/472 ,6/394) . [7] في قرة العيون: فقد ذكر فيها - رحمه الله تعالى - ما يبين التوحيد وما ينافيه, وما يقرب منه, وما يوصل إليه من الوسائل, وبيان ما كان عليه السلف من بعدهم عن الشرك في العبادة وشدة إنكارهم له وجهادهم على ذلك، وقد جمع هذا الكتاب على اختصاره من بيان التوحيد ما لا يعذر أحد عن معرفته وطلبه بإقبال وتدبر. وكذلك الرد على أهل الأهواء جميعهم, فمن حفظه واستحضره وجد ذلك واستغنى به عن غيره في الرد على كل مبتدع, فتدبره تجد ذلك بينا. وسيأتي التنبيه على ذلك إن شاء الله تعالى.